ليلة يلدا من أعرق الطقوس الإيرانية التي تمنح التجمعات العائلية طابعًا خاصًا مع حلول أطول ليلة في السنة. فهي ليست مجرد محطة تقويمية، بل رمزٌ لانتصار النور على الظلام وفرصة لإحياء التقاليد. تبدأ يلدا مع غروب آخر يوم من الخريف وتنتهي مع شروق شمس أول يوم من الشتاء. وقد حظيت هذه الليلة، قبل الإسلام وبعده، بمكانة راسخة في الثقافة الإيرانية، إذ كانت دائمًا باعثًا لاجتماع الأقارب حول موائد عامرة، تمنحهم فرصة للتواصل وتعزيز الروابط الأسرية. وبين رحيل الخريف ومقدم الشتاء، تأتي يلدا كليلة ممتدة بامتداد الثقافة، ملونةً بألوان الخريف، نقيةً ببياض الشتاء.
يلدا احتفالية إيرانية خضراء أبدًا، لا تُجسد آخر مشهد خريفي فحسب، بل تبُشّر بشروق الشمس وانتصار النور على الظلام. هي أطول ليالي العام، وفرصةً لتجتمع العائلات حول فوانيس الذكريات بعيدًا عن صخب الحياة اليومية. وفي هذه الليلة المباركة، تتوشّح الموائد بعبق الرمّان وحمرة البطيخ، رمزين للحيوية والأمل بالوفرة. مجالس يلدا في كل بيت إيراني تتحول إلى منتدى لتكريم الحكمة واحترام الجذور، حيث تُروى حكايات الكبار، وتُفتح دواوين حافظ طلبًا للفأل عبر لسان الغيب، وتذوب هموم الأمس في برودة الليل مع أنغام الشعر القديم.
* ليلة يلدا.. ولادة النور في أطول ليالي العام
يلدا هي واحدة من أقدم الأعياد الإيرانية، وتُعرف أحيانًا باسم «ليلة الجلّه». في الحادي والعشرين من ديسمبر، الذي يوافق بداية شهر (دي) ودخول الشتاء، يحتفل الإيرانيون في مختلف أنحاء العالم بهذه المناسبة العريقة. يُقام عيد يلدا في نهاية الخريف، في أطول ليلة من السنة، حيث يُنظر إليه كرمز لميلاد الشمس من جديد وانتصار النور على الظلام، إذ تبدأ الأيام بالامتداد والليالي بالقصر مع حلول الشتاء. يقضي الإيرانيون هذه الليلة بين الأصدقاء والأقارب في منازل الأجداد والجدات، يتشاركون أطول ليلة في العام بتناول المكسرات والفواكه، وقراءة أشعار حافظ، وتبادل الأحاديث والضحكات، مرحّبين بقدوم الشتاء. هذه الطقوس جزء أصيل من عاداتهم وتقاليدهم المتوارثة.
* سبب التسمية
تُعتبر ليلة يلدا آخر ليلة في الخريف وأطول ليلة في السنة، فاصلةً بين موسمي الخريف والشتاء. يُطلق على هذه الليلة أيضًا اسم «الجله» دلالةً على قدوم برد الشتاء. وقد ارتبط الاحتفال بها منذ القدم برمز انتصار النور والخير على الشر. ويُذكر أن كلمة “يلدا” سريانية الأصل وتعني الولادة، في إشارة إلى ولادة الشمس التي تهزم الليل، أو النور الذي يغلب الظلام.
* تاريخ ليلة يلدا
يعود تاريخ هذه الليلة إلى عصور سحيقة، ويُقدّر بعض علماء الآثار عمرها بسبعة آلاف سنة، فيما يُرجّح آخرون أنها تعود إلى نحو 500 سنة قبل الميلاد، حيث أُدرجت رسميًا في التقويم الإيراني في عهد داريوس. والشعب الإيراني من أكثر الشعوب احتفاءً بالمناسبات والأعياد الدينية والقومية وغيرها. وإذا اطلعنا على التقويم الإيراني، نجد وفرة ً من هذه المناسبات والأعياد المتوارثة عند الإيرانيين، ومنها لیلة يلدا التي تُعرف أيضاً بـ «شب يلدا».
يلدا، إنها ليلة تستحضر الذكريات الجميلة، ليست مجرد لحظة عابرة، بل ثقافة حيّة ظل الإيرانيون يحتفلون بها منذ قرون طويلة، لتكون رمزًا جامعًا بين وداع الخريف واستقبال الشتاء، وطقسًا مسجّلًا عالميًا بإسم إيران.
* آداب ورسوم الإيرانيين في ليلة يلدا

منذ القدم، كانت العائلات الإيرانية تجتمع في هذه الليلة المميزة، وتلتزم بعادات راسخة تُحفر في الذاكرة. تُرتّب الموائد بالفواكه الشهية والأطعمة الخريفية والأطباق الملونة والمكسرات المتنوعة.
ومن أبرز تقاليد هذه الليلة قراءة الشاهنامة، وأخذ الفأل من ديوان حافظ، ورواية القصص. شمس الدين محمد حافظ الشيرازي هو أحد الشعراء الإيرانيين المشهورين والبارزين في القرن الرابع عشر. يُعتبر حافظ عزيزًا جدًا ومحبوبًا لدى الإيرانيين. يحتفظ معظم الإيرانيين بنسخة من كتاب شعره «ديوان حافظ» في منازلهم. ويؤمن الكثيرون أن من يسأل حافظ سؤالًا أو يتمنى أمنية بصدق، يجد الجواب في أبياته. بعد تناول الطعام، يقرأ أحد كبار العائلة أشعار حافظ لهم. فيسأل كل فرد سؤالاً أو يتمنى أمنية، ثم تُفتح صفحات الديوان ، ويقرأ كبير العائلة رد حافظ ويُفسر البيت المختار ، فيما يروي الكبار ذكرياتهم وقصصهم للصغار، لتظل يلدا ليلةً عامرة بالدفء والروح الجماعية.
* تناول الفواكه في هذه الليلة

ومن أبرز فواكه ليلة يلدا الرمّان والبطيخ، وهما ضيفان لا يغيبان عن الموائد الإيرانية في هذه المناسبة. يعتقد الإيرانيون أن تناول البطيخ في هذه الليلة يحميهم من برد الشتاء وأمراضه. فيما يرمز الرمّان إلى الحيوية والوفرة. هذه الثمار، بما تحمله من ألوان زاهية ونكهات عذبة، تُغني الجسد بالفيتامينات والمضادات الطبيعية، وتُبهج العين والروح معًا. وكثيرًا ما تُزيَّن حبات البطيخ بأشكالٍ فنية لتضفي على المائدة جمالًا إضافيًا، إلى جانب القرع الحلو والشمندر المطبوخ والبرتقال واليوسفي والكاكي، التي تكمل لوحة الفواكه الشتوية.
* تناول المكسرات والوجبات الخفيفة

أمّا المكسرات والوجبات الخفيفة فهي جزء لا يتجزأ من هذه الليلة الطويلة. تُقدَّم أطباق ملونة تضم اللوز والجوز والفستق والبندق وبذور اليقطين، إضافةً إلى الفواكه المجففة مثل التوت والتين والخوخ. هذه المائدة الغنية تُحوّل السهر إلى وليمة من الذكريات، حيث يتشارك الجميع الطعم والضحكة والدفء.
* تسجيل ليلة يلدا في اليونسكو
تم تسجيل «ليلة يلدا» ملف كتراث ثقافي غير مادي مشترك بين إيران وأفغانستان بمشاركة الأخيرة في شهر ديسمبر عام 2022 من قبل اليونسكو، وأُدرجت في قائمة التراث العالمي، وتم تقديمه للعالم ، كما تم تسجيل طقوس ليلة يلدا في 29 ديسمبر 2007 في قائمة الأعمال الوطنية الإيرانية. هذا الاعتراف الدولي يُكرّس مكانة يلدا كطقس حيّ يعبّر عن هوية شعبية عريقة ويقدّمها للعالم كإرث إنساني خالد.
* يلدا وتأثيرها العالمي
يلدا تتجاوز كونها مجرد احتفال طقسي، فهي تحمل فكراً عميقاً، إنسانياً وعالمياً سيظل تأثيره مستمراً في الثقافة العالمية ما دام الإنسان يعيش على وجه الأرض.
وعندما ننظر إلى ظاهر ليلة يلدا، قد نرى مجرد احتفال تقليدي، لكن في عمق هذا الطقس يكمن فكر إنساني وعالمي عظيم؛ فكر يسري اليوم تقريباً في جميع أنحاء العالم وسيبقى تأثيره ما دامت الحياة مستمرة.
يلدا طقس جذوره ضاربة في أعماق تاريخ إيران القديم، ومرتبط بمفهوم ولادة الشمس وبزوغها من جديد. بالنسبة للإيرانيين، تعني يلدا نهاية الخريف وبداية الشتاء وتجدد الطبيعة؛ وهو مفهوم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بدورة الحياة والأمل في استمرارها.
فكر يلدا له تجليات متعددة، أبرز مظاهره يمكن رؤيتها في المنتجات الثقافية والفنية. ففي الأدب الفارسي، من الصعب أن نجد شاعراً لم يتغنَّ بيلدا أو لم يكتب عنها شعراً؛ فهذا الطقس حاضر بوضوح وخلود في نسيج النثر والشعر الفارسي.
الهدف من إقامة مراسم ليلة يلدا هو بث روح الثقافة والأمل في الأسرة. فالأمل هو منبع جميع الحركات الإنسانية والثقافية للبشر، والإنسان الذي يفقد الأمل يغدو كآلة متحركة بلا روح. إن جوهر الأمل يكمن في قدرة الإنسان على مواجهة التحديات الثقافية والاجتماعية دون أن يستسلم لليأس.
* يلدا.. طقس يجذب أنظار العالم إلى تراث حي وملهم
حين تكتسب يلدا طابعاً عالمياً، فإنها في جوهرها تبث الأمل من أجل حياة أرقى ومعيشة أكثر ثقافة في جميع أنحاء العالم. ففي ثقافة يلدا، تتتجسد مفاهيم النور، والدفء، والولادة من جديد؛ وهي مفاهيم أصبحت اليوم لغةً ثقافية ًمشتركة في العالم، ومن أبرز ما يميز هذا الطقس أن جذوره انطلقت من إيران، وما تزال إيران حتى اليوم تُقدمه للعالم كتراث ثقافي قديم حيّ وملهم.
نعم، يلدا تأتي بكل جمالها لتستقبل الشتاء، فهي آخر أيام الخريف وأول بشائر الشتاء المشرقة. تأتي يلدا بأنفاسها الشتوية الباردة لتُقرّب الناس من بعضهم البعض، لتغسل الضغائن وتجعل القلوب أنقى من أي وقتٍ مضى.
يلدا فرصة لنُحب بعضنا البعض في أبرد الليالي وأظلم الأيام، فرصة لنزيح غُبار الكسل والوحدة عن مرآة القلوب، فرصة ينبغي أن نغتنمها لنكون سببًا في تجديد اللقاءات والبقاء معًا لدقيقة إضافية.
كل عام وأنتم بخير بمناسبة يَلدا، الليلة التي يتحول فيها صقيعُ الشتاء إلى أدفأ ليالي العام بفضلِ دفءِ العائلة والمحبة.