جذور الأزمة.. من العقوبات إلى الحصار البحري
منذ وصول الرئيس هوغو تشافيز إلى السلطة في أواخر التسعينيات، دخلت فنزويلا في مواجهة مفتوحة مع الولايات المتحدة، مواجهة عنوانها الأساسي هو النفط. فقد سعى تشافيز إلى إعادة توجيه الثروة النفطية نحو الداخل الفنزويلي، عبر برامج اجتماعية واسعة، ما أثار غضب الشركات الأميركية التي اعتادت على استغلال النفط الفنزويلي بأسعار زهيدة. ومع وفاة تشافيز وتولي نيكولاس مادورو الحكم، استمرت هذه السياسة، بل ازدادت حدة مع تصاعد التوترات السياسية والاقتصادية.
واشنطن، التي لم تتقبل فكرة أن دولة في «الفناء الخلفي» الأميركي تخرج عن طوعها، لجأت إلى سلاح العقوبات منذ عام 2017، إذ فرضت قيودًا على تصدير النفط الفنزويلي، وجمدت أصولًا، ومنعت التعامل مع شركة النفط الوطنية PDVSA. لكن هذه العقوبات لم تحقق الهدف المنشود بإسقاط الحكومة الفنزويلية أو دفع مادورو إلى الاستسلام، بل على العكس، دفعت فنزويلا إلى تعزيز تحالفاتها مع الصين وروسيا ودول أخرى، ما جعلها أكثر قدرة على الصمود. ومع نهاية 2025، قررت إدارة ترامب الانتقال إلى مرحلة أكثر خطورة: الحصار البحري ومصادرة الناقلات.
حرب الناقلات.. استعراض قوة أم قرصنة بحرية؟
في ديسمبر/ كانون الثاني 2025، صعدت القوات الأميركية على متن ناقلة نفط غير خاضعة للعقوبات، كانت تحمل نفطًا فنزويليًا في طريقها إلى آسيا. هذه العملية، التي وُصفت بأنها «رسالة إلى مادورو»، أثارت جدلًا واسعًا حول شرعية التحرك الأميركي. فواشنطن بررت الخطوة بأنها جزء من «الحرب على المخدرات»، متهمةً الدولة الفنزويلية باستخدام النفط كغطاء لتهريب الكوكايين. لكن الحقيقة التي لا يمكن إنكارها هي أن الهدف الأساسي كان النفط نفسه، وأن الولايات المتحدة تسعى إلى حرمان فنزويلا من تصدير ثروتها الطبيعية، وبالتالي خنق اقتصادها وإجبارها على الرضوخ.
من وجهة نظر فنزويلا، ما قامت به واشنطن ليس سوى قرصنة بحرية وانتهاك صارخ للقانون الدولي. فالسفن التي تمت مصادرتها لم تكن خاضعة للعقوبات، وكانت تبحر في المياه الدولية، ما يجعل التدخل الأميركي عدوانًا سافرًا على حرية الملاحة. مادورو نفسه وصف هذه العمليات بأنها «سرقة منظمة»، مؤكدًا أن بلاده لن تتراجع أمام التهديدات، وأنها ستواصل تصدير النفط مهما كانت التحديات.
الموقف الفنزويلي.. الدفاع عن السيادة والكرامة
فنزويلا، التي عانت سنوات طويلة من الحصار الاقتصادي، تدرك أن المعركة الحالية ليست مجرد مواجهة على ناقلة أو اثنتين، بل هي معركة وجودية على حقها في السيادة. مادورو أعلن بوضوح أن بلاده لن تسمح بتحويل النفط إلى أداة ابتزاز، وأنها ستواصل الدفاع عن ثرواتها حتى النهاية. هذا الموقف يعكس إرادة شعبية واسعة، إذ يرى الفنزويليون أن النفط ليس مجرد سلعة، بل هو رمز للكرامة الوطنية ووسيلة للبقاء في وجه الضغوط الخارجية.
الجيش الفنزويلي بدوره دخل على خط المواجهة، إذ رافقت بعض الناقلات سفنًا عسكرية لحمايتها من أي محاولة اعتراض. هذه الخطوة تحمل دلالات مهمة، فهي تؤكد أن فنزويلا مستعدة لاستخدام القوة إذا اقتضى الأمر، وأنها لن تسمح بتحويل مياهها الإقليمية إلى مسرح للهيمنة الأميركية.
البُعد الإقليمي والدولي..تضامن أم مواجهة؟
الأزمة لم تبقَ محصورة بين واشنطن وكاراكاس، بل سرعان ما اكتسبت أبعادًا إقليمية ودولية. الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا حذر من أن التدخل العسكري الأميركي سيكون «كارثة إنسانية»، مشددًا على أن أميركا اللاتينية لا يمكن أن تتحمل حربًا جديدة. هذا الموقف يعكس قلقًا حقيقيًا لدى دول المنطقة من أن تتحول فنزويلا إلى ساحة صراع شبيه بما حدث في العراق أو ليبيا.
الصين، التي تستورد كميات كبيرة من النفط الفنزويلي، أعلنت رفضها للقرصنة الأميركية، مؤكدةً دعمها لحق فنزويلا في الدفاع عن سيادتها. روسيا بدورها اعتبرت أن ما يجري هو محاولة لإعادة فرض الهيمنة الأميركية على القارة، وتعهدت بتقديم الدعم السياسي والعسكري لكاراكاس إذا لزم الأمر.
النفط كسلاح.. واشنطن تخشى فقدان السيطرة
النفط هو جوهر الصراع. فنزويلا تمتلك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم، يقدر بنحو 300 مليار برميل، وهو ما يجعلها هدفًا دائمًا للولايات المتحدة. واشنطن تدرك أن السيطرة على هذا الاحتياطي يعني ضمان تفوق استراتيجي في سوق الطاقة العالمية، خاصةً في ظل التوترات مع الشرق الأوسط وروسيا. لذلك، فإن حرب الناقلات ليست مجرد مواجهة تكتيكية، بل هي جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى إعادة السيطرة على الموارد العالمية.
لكن فنزويلا، رغم العقوبات والحصار، ما زالت قادرة على تصدير النفط عبر طرق بديلة، سواء عبر الصين أو عبر دول وسيطة. وهذا ما يثير غضب واشنطن، التي ترى أن استمرار تدفق النفط الفنزويلي يعني فشل استراتيجيتها. لذلك، لجأت إلى مصادرة الناقلات كوسيلة لقطع الطريق على أي محاولة للالتفاف على العقوبات.
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية
الأزمة انعكست بشكلٍ مباشر على الاقتصاد الفنزويلي، الذي يعاني أصلًا من التضخم ونقص السلع. لكن رغم ذلك، فإن الشعب الفنزويلي أظهر قدرة كبيرة على الصمود، مستفيدًا من برامج الدعم الحكومي والتحالفات الدولية التي وفرت بعض المتنفس. في المقابل، فإن الأسواق العالمية بدأت تشعر بارتباك، إذ ارتفعت أسعار النفط بشكلٍ ملحوظ، وسط مخاوف من أن يؤدي استمرار الحصار إلى أزمة طاقة عالمية.
سياسيًا، عززت الأزمة موقف مادورو داخليًا، إذ ظهر بمظهر القائد الذي يدافع عن سيادة بلاده في وجه العدوان الأميركي. هذا الموقف أكسبه دعمًا شعبيًا واسعًا، حتى بين بعض معارضيه الذين يرون أن مواجهة واشنطن قضية وطنية تتجاوز الخلافات الداخلية.
احتمالات المستقبل.. حرب مفتوحة أم تسوية؟
السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو: إلى أين تتجه الأزمة؟ هل ستظل حرب الناقلات مجرد مواجهة بحرية محدودة، أم أنها ستتطور إلى حرب مفتوحة؟ الاحتمالات متعددة، لكن المؤكد أن فنزويلا لن تتراجع، وأنها ستواصل الدفاع عن حقها في تصدير النفط. في المقابل، فإن واشنطن قد تجد نفسها أمام مأزق، إذ أن أي مواجهة عسكرية واسعة ستثير غضب دول المنطقة، وستضعها في مواجهة مباشرة مع الصين وروسيا.
من المرجح أن تستمر الأزمة في شكل «حرب استنزاف»، حيث تواصل واشنطن اعتراض الناقلات، فيما تبحث فنزويلا عن طرق جديدة لتصدير النفط. لكن في النهاية، فإن هذه الحرب قد تؤدي إلى إعادة رسم خريطة النفوذ في أميركا اللاتينية، وربما إلى تراجع الدور الأميركي في المنطقة.
ختاماً حرب الناقلات قبالة فنزويلا ليست مجرد أزمة نفطية، بل هي معركة على السيادة. فنزويلا، التي واجهت سنوات طويلة من العقوبات والحصار، أثبتت أنها قادرة على الصمود، وأنها لن تسمح بتحويل ثرواتها إلى أداة ابتزاز. في المقابل، فإن الولايات المتحدة، التي تسعى إلى إعادة فرض هيمنتها، تجد نفسها أمام تحديات كبيرة، سواء من الداخل الفنزويلي أو من المجتمع الدولي. هذه الحرب قد تطول، لكنها في النهاية ستكشف أن الشعوب التي تدافع عن حقها في السيادة قادرة على مواجهة أعتى القوى، وأن النفط ليس مجرد سلعة، بل هو سلاح في معركة الحرية والكرامة.