في توقيت بالغ الحساسية، خرجت القاهرة باتهام مباشر لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو بأنه يحاول إشعال المنطقة لإفشال المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة. لم يكن هذا التصريح مجرد ردّ فعل سياسي، بل كان تعبيراً عن إدراك مصري بأن ما يجري خلف الكواليس يتجاوز حدود الخلافات التقنية، ليصل إلى محاولة صهيونية لإعادة صياغة مستقبل غزة بما يتعارض مع جوهر الاتفاق. فمصر، التي لعبت دور الوسيط المركزي، تعرف تفاصيل التفاهمات، وتدرك حجم المناورات التي تحاول حكومة الاحتلال إدخالها على النص، وتعي أن المرحلة الثانية هي اللحظة التي ستُحدّد ما إذا كانت غزة ستتجه نحو الاستقرار أم نحو جولة جديدة من الفوضى.
هذا الاتهام يعكس أيضاً تحوّلاً في خطاب القاهرة، التي اختارت هذه المرة أن تكشف جانباً من الصراع الحقيقي الدائر حول غزة: صراع على تعريف المرحلة المقبلة، وعلى شكل الاستقرار الذي يُراد فرضه، وعلى حدود الدور الصهيوني في رسم مستقبل الفلسطينيين. فالقاهرة ترى أن نتنياهو لا يناور فقط داخل الاتفاق، بل يحاول خلق بيئة إقليمية مشتعلة تُربك الوسطاء وتؤجّل تنفيذ الاستحقاقات الأساسية.
تصعيد متواصل.. من تعطيل التنفيذ إلى إشعال الجبهات
تقول القاهرة إن نتنياهو يحاول تحويل الأنظار عن غزة عبر افتعال توترات جانبية، بحيث يُصبح تنفيذ المرحلة الثانية مسألة مؤجلة. فكلما اقترب موعد الانتقال إلى هذه المرحلة، ارتفعت وتيرة التصعيد في محيط القطاع، وازدادت محاولات الاحتلال لفتح ملفات جانبية تُشغل واشنطن وتخفّف الضغط عنه. وترى القاهرة أن نتنياهو يدرك أن استمرار التركيز الدولي على غزة يعني استمرار مساءلته عن نتائج الحرب، لذلك يسعى إلى خلق مشهد إقليمي مضطرب يسمح له بالادعاء أن الظروف الأمنية لا تسمح بالانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة.
المرحلة الثانية من اتفاق غزة
المرحلة الثانية ليست خطوة إجرائية، بل هي قلب العملية السياسية التي ستُحدد مستقبل غزة. فهي المرحلة التي يُفترض أن تنتقل فيها غزة من وقف إطلاق النار إلى تثبيت الاستقرار، ومن حالة الطوارئ إلى بداية إعادة الإعمار. ولذلك فإن الصراع على تفسير هذه المرحلة هو صراع على مستقبل القطاع نفسه.
القاهرة ترى أن المرحلة الثانية تهدف إلى تثبيت وقف إطلاق النار وفتح الباب أمام ترتيبات مدنية وأمنية جديدة لا تقوم على الهيمنة الصهيونية. لكن نتنياهو يحاول أن يُعيد تعريف هذه المرحلة بحيث تصبح منصة لفرض شروط جديدة، أبرزها نزع سلاح المقاومة. وهذا الشرط، الذي لا وجود له في نص الاتفاق، يمثل محاولة واضحة لتحويل المرحلة الثانية إلى مرحلة استسلام سياسي وأمني.
وتُحذّر القاهرة من محاولة الاحتلال تحميل قوة حفظ الاستقرار مهام لا علاقة لها بتكليفها، بما يحوّلها إلى طرف في الصراع ويخلق احتكاكاً مباشراً بينها وبين الفلسطينيين. فالقاهرة تدرك أن أي انحراف في دور هذه القوة سيحوّل غزة إلى ساحة صراع جديد، ويجعل من المرحلة الثانية مجرد عنوان بلا مضمون.
«الفيتو الأميركي» وحدوده… بين المصالح والضغوط
تقول القاهرة إن هناك فيتو أميركياً على تجدد الحرب الشاملة في غزة، وإن واشنطن وصلت إلى قناعة بأن استمرار الحرب لم يعُد يخدم مصالحها. لكن هذا الفيتو لا يعني أن الطريق نحو المرحلة الثانية سيكون سهلاً. فالولايات المتحدة، رغم رغبتها في إنهاء الحرب، لا تريد الدخول في مواجهة مباشرة مع نتنياهو، ولا تريد أن تظهر كمن يفرض على كيان العدو ما لا يريده.
لذلك فإن واشنطن قد تمنع العودة إلى الحرب، لكنها قد تسمح في الوقت نفسه لهوامش من التصعيد المحدود الذي يستخدمه نتنياهو كورقة ضغط. وهذا ما يجعل القاهرة تتحدث عن «هدوء متوتر»، لا عن وقف إطلاق نار كامل. فالميدان لا يزال مفتوحاً، والغارات لا تزال مستمرة، والاحتلال لا يزال يستخدم القوة لتعديل شروط التفاوض.
وترى القاهرة أن لقاء ترامب–نتنياهو في نهاية ديسمبر /كانون الأول سيكون لحظة حاسمة، لأن ترامب يريد أن يُنسب إليه «حل تاريخي»، ولا يريد أن يظهر كمن سمح لنتنياهو بتخريب الاتفاق الوحيد الذي يحمل اسمه.
نتنياهو يهرب من مأزقه عبر غزة
رغم الحديث عن اتفاق ومرحلة ثانية، يواصل الاحتلال قصف غزة في رسالة سياسية تهدف إلى فرض شروط جديدة وتعطيل بنود الاتفاق، ليبقى الميدان أداة تفاوض وضغط معلّق بين الأمل والخوف. هذا السلوك يعكس مأزق نتنياهو الداخلي، إذ يقود حكومة منقسمة ويواجه احتجاجات وانتقادات من عائلات الأسرى والمؤسسة العسكرية. أي هدوء طويل في غزة يعني فتح الباب أمام محاسبته، لذلك يلجأ إلى التصعيد الإقليمي كدرع سياسي، محاولاً تصوير كيان العدو في حالة طوارئ دائمة، فيما ترى القاهرة أن هذا النهج ليس دفاعاً عن الأمن بل عن كرسي السلطة.
ختاماً غزة تقف اليوم بين مشروعين: مشروع يريد تحويل المرحلة الثانية إلى بداية استقرار، ومشروع يريد تحويلها إلى منصة لفرض شروط جديدة على الفلسطينيين. القاهرة تقول بوضوح إن نتنياهو يحاول إفشال المرحلة الثانية، وإنه يستخدم التوترات والقصف والمناورات السياسية لإعادة صياغة الاتفاق.
لكن مصر ترى أن المرحلة الثانية فرصة تاريخية يجب ألا تضيع، فهي فرصة لتثبيت وقف إطلاق النار، ولمنع التهجير، ولإعادة الإعمار، ولحماية حق الفلسطيني في البقاء على أرضه.