الوفاق/خاص/ د.أكرم شمص
المقدّمة:
لم يكن اسم الشهيد الحاج قاسم سليماني في الوعي الاستراتيجي العالمي اسماً عابراً أو مجرد قائد عسكري ظهر في لحظة تاريخية ثم رحل؛ بل بات بمثابة “مرآة” تُقرأ من خلالها تحولات توازن القوى في غرب آسيا. فمن زاوية الغرب، هو أحد أبرز مهندسي التحول الجيوسياسي في الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين وهو رأس الحربة الإيرانية ورجل عابر للحدود؛ ومن زاوية محور المقاومة، هو الأب الروحي لمعادلة القدرة – الإيمان – الزمن التي قلبت اتجاه الصراع لصالح الشعوب. وبين هاتين الصورتين تتشكّل ظاهرة غير مسبوقة: قائد يُقاس تأثيره بعد غيابه أكثر ممّا يُقاس بحضوره.
سليماني في خطاب السيد القائد.. مدرسة لا فرداً
خطاب الإمام الخامنئي في الذكرى الخامسة لاستشهاده كان مفتاحاً لفهم الدور التاريخي الذي لعبه سليماني؛ إذ ربطه بمفهوم العزّة الإلهية والعمل الخالص، وباعتباره الفاعل المركزي في إفشال مشروع «تطويق إيران» بعد احتلال أفغانستان والعراق. كما قدّم مفهوم «الدفاع عن الحرمات» بوصفه عقيدة استراتيجية تمتد من كربلاء ودمشق والمسجد الأقصى – إلى إيران نفسها باعتبارها «حرماً». هذا الخطاب صاغ سليماني كـ مدرسة قابلة للاستنساخ – لا بطلاً فردياً – وهنا ينتقل الخطاب من تمجيد الفرد إلى تأصيل نموذج مؤسسي يقوم على تعبئة القوى الوطنية وتنظيمها، بما يحول الجماهير إلى قوة ردع فاعلة تواجه قوى الإرهاب.
ويختم الإمام برسائل سياسية واضحة: الثورة الإسلامية ما زالت حيّة ومتجددة في أجيال جديدة من الشهداء والمجاهدين، وأن مستقبل الإقليم يُرسم بإرادة الشعوب لا بخرائط المحتل؛ فالقواعد الأميركية في غرب آسيا إلى زوال، ولبنان واليمن وفلسطين وكل ساحات المقاومة موعودة بالنصر، ما دامت معادلة القوة قائمة على الإيمان + الجماهير + الزمن.
سليماني كما تراه المؤسسات الغربية.. «القائد الظلّ»
إن قراءة سليماني من زاوية غربية لا تقلّل من مكانته المحلية بل تكشف عمق أثره:
فهو – بحسب خصومه قبل محبّيه – قائد غيّر قواعد اللعبة في المنطقة، وترك نموذجًا يخشاه منطق القوة الإمبراطورية لأنه منح الشعوب قدرة الانتقال من موقع المتلقّي للصراع إلى صانع معادلته.
ترسم تقارير مراكز الأبحاث الأميركية والأوروبية – من New Yorker وNew York Times إلى Atlantic The و RAND – صورة قائد شبح قادر على إدارة حروب غير متكافئة وتشكيل «دبلوماسية موازية» خارج القنوات الرسمية.
وتصفه تقارير الـCIA بأنه شكّل «دبلوماسية موازية» تتحرك خارج القنوات الرسمية. ورغم إدراجه على لوائح «الإرهاب» حسب زعمهم، ويعترف مسؤولون كبار مثل ديفيد بترايوس بكفاءته الاستثنائية كخصم «ذكي وحاسم ومنظّم»، فيما تصفه The Atlantic بأنه «الرجل الذي أعاد رسم حدود النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط دون أن يطلّ عبر الشاشة»، وقائد «قوة ردع هجينة» تجعل مواجهته بالوسائل التقليدية غير فعّالة.
ومن زاوية المؤسسة العسكرية الأميركية، كما يقدّمها الجنرال كينيث ماكينزي في كتابه نقطة الانصهار ومقاله في The Atlantic، يتحوّل سليماني إلى عقدة مركزية في معادلة الردع مع إيران: فاغتياله كان – برأيه – محاولة لكسر حالة التردد الأميركية واستعادة «هيبة القوة».
يسرد ماكينزي مساراً متراكماً من الهجمات على القواعد الأميركية في العراق عام 2019 وصولاً إلى هجوم 27 كانون الأول/ديسمبر الذي شكّل نقطة التحول، ثم يروي بالتفصيل كواليس قرار ترامب، والجدل حول الأهداف البديلة (اليمن، سفينة سافيز، أهداف لوجستية)، والمحاولة الفاشلة لإسقاط طائرة مدنية كان على متنها سليماني، وصولاً إلى تنفيذ الضربة بطائرة MQ-9 على طريق المطار في بغداد.
اقتباسات من المقاربة الدولية غير الغربية
في المقابل، تعكس شهادات خبراء دوليين وأوروبيين وتصنيفات صحف ومراكز أبحاث بريطانية كـThe Guardian وChatham House – صورة مغايرة جذرياً: سليماني عندهم هو مهندس «استراتيجية مقاومة» عابرة للحدود في مواجهة الإمبريالية الصهيو–أميركية، وشخصية محورية في تعبئة القوى الثورية في أفغانستان والعراق ولبنان وسوريا واليمن وفلسطين، ورمز لـ«الإسلام الثوري» الذي يربط بين الدفاع عن الجمهورية الإسلامية ومعركة تحرير القدس.
أمّا في المنظور الصهيوني، كما تعكسه تحليلات INSS وصحف مثل Haaretz وIsrael Hayom، فهو «المهندس الذي شدّ الحبل حول العنق» عبر بناء «طوق من النار» حول الكيان، وتحويل حزب الله إلى قوة صاروخية كبرى وترسيخ التموضع الإيراني في سوريا، ما جعله الهدف الأثمن لأجهزة الاستخبارات.
وهكذا تتبلور ثلاث صور متوازية: واشنطن الرسمية ترى فيه خصماً يجب تصفيته لاستعادة الردع، محور المقاومة يراه قائدَ الانتصارات وكاسر هيبة أميركا، بينما تراه الكثير من النخب الدولية مفكّراً استراتيجياً ورمزاً عالمياً لتنظيم المقاومة ضد الهيمنة.
الأدوار الميدانية.. قراءة مركّزة عبر ساحات الصراع
لم تكن بصمة الشهيد الحاج قاسم سليماني محصورة في موقع جغرافي واحد، بل امتدت – وفق الأدبيات الغربية والصهيونية – عبر جغرافيا متشابكة تحوّلت فيها كل ساحة إلى قطعة من «رقعة صراع» أعاد تشكيلها وفق رؤية واحدة.
ففي غزة، تُجمِع مراكز أبحاث غربية وصهيونية على أنّ بصمة سليماني في غزة كانت «نوعية» أكثر منها عددية: لم يكن يرسل السلاح فقط، بل نقل معرفة التصنيع المحلي للصواريخ والقدرات الهندسية التي سمحت لحماس والجهاد الإسلامي بالانتقال من قذائف بدائية إلى صواريخ أبعد مدى مثل فجر وM-75 وغيرها، مع الحديث عن تطوير شبكة الأنفاق الدفاعية والهجومية التي تُسمّيها دوائر العدو«مترو غزة».
أما في العراق، فقد ظهر أثره في اللحظة التي انهارت فيها المدن أمام تنظيم داعش عام 2014؛ إذ تصف مصادر أميركية كـ New York Times دوره بأنه حاسم في منع سقوط بغداد وأربيل.
وفي لبنان، تشير مراكز العدو الصهيوني مثل INSS إلى أنّه كان «المهندس الهادئ» الذي رعى مشروع الصواريخ الدقيقة وحوّل حزب الله من حركة مقاومة ذات طابع محلي إلى قوة ردع إقليمية، كما أنّ حضوره في غرفة العمليات خلال حرب تموز 2006 عُدّ – أمنياً – من العناصر التي حالت دون تحقيق العدو الصهيوني أهدافه.
وفي سوريا، توثق تحليلات Reuters وCSIS أنّ الشهيد سليماني لعب دور «المنقذ» في اللحظة التي كان ميزان القوى يميل فيها لمصلحة الفصائل المسلّحة، بدءًا من إعادة بناء الجيش الرديف، وصولاً إلى استقدام قوات داعمة، وانتهاءً بتحريك قرار موسكو بالتدخل عام 2015 عبر زيارة حمل خلالها خرائط الميدان إلى الكرملين؛ وهو تطوّر عسكري غيّر مسار الحرب.
فرادة الشخصية.. القيادة كهوية اجتماعية لا رتبة
تميّز الشهيد الحاج قاسم سليماني بهوية مركّبة جعلته يتجاوز تعريف “القائد العسكري” التقليدي ليصبح نموذجاً لقيادة ميدانية – اجتماعية – سياسية متداخلة الأبعاد. فقد جمع بين صرامة التخطيط العملياتي وقدرة نادرة على صناعة الروابط العاطفية والإنسانية مع المقاتلين والسكان في الساحات ، وهو ما جعل حضوره لا يُقاس بعدد الجبهات التي قادها بل بالثقة التي بثّها في من حوله.
هذه السمة، المقرونة بقدرته على تحويل لحظة الانهيار إلى فرصة تعبئة، هي التي سمحت له بالاستمرار في التأثير حتى خارج بيئته الجغرافية.
الخاتمة: ما بعد الجسد.. لماذا لم ينتهِ تأثيره؟
إنّ جمع هذه المقاربات من واشنطن والكيان الغاصب ولندن إلى دمشق وغزة وبغداد يكشف أنّ الشهيد سليماني لم يعد جزءاً من الماضي؛ بل أصبح إطاراً لفهم الصراع في الحاضر.
اغتياله كان محاولة لقتل الفكرة، لكنّ الفكرة خرجت من الجسد إلى ما هو أعمق: مدرسة، شبكة، سردية، وذاكرة. ولذلك لم يعد السؤال: كيف استشهد سليماني؟
ب: كيف سيُقرأ الشرق الأوسط بعد سليماني… وليس قبله.
