علاقة الشهيدين الحاج قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس.. بنية العلاقة وأبعادها المتعددة

خاص الوفاق: في مسيرة امتدت من جبهات الدفاع المقدس إلى معارك تحرير العراق من داعش، عاش الشهيدان الفريق الحاج قاسم سليماني والحاج أبو مهدي المهندس تجربة جهادية مشتركة تراكمت فيها الثقة والتكامل والعمل الموحد.

د. أكرم شمص

 

 

بدأت علاقتهما منذ الثمانينيات حين وجدا نفسيهما في خندق واحد ضد نظام صدام البائد، ثم تعمّقت هذه الرابطة حين أصبح العراق بعد 2003 ساحة مركزية للصراع مع الإرهاب والاحتلال.

 

وهناك، وقف الشهيد سليماني بوصفه العقل الاستراتيجي الذي يربط الجبهات ويصوغ المعادلات، فيما جسّد الشهيد المهندس القائد الميداني الذي يهيكل القوى العراقية ويحوّلها إلى مؤسسة اسمها “الحشد الشعبي”.

 

هذا التكامل بلغ ذروته في مواجهة تمدد داعش عام 2014، حيث شاركا معاً في القيادة الميدانية لتحرير المدن المحاصرة، وكان ظهورهما المشترك في الجبهات – كما تنقله الشهادات – مصدراً للإلهام والروح المعنوية للمقاتلين قبل أن يكون عملاً تنفيذياً.

 

ورغم تباين مواقع المسؤولية بينهما، ظلت العلاقة إنسانية وروحية بقدر ما كانت عسكرية؛ إذ وصف الشهيد سليماني الشهيد المهندس قائلاً: «أفتخر بأنني كنت ولا أزال جندياً لدى الحاج أبو مهدي»، بينما قال المهندس في شهادته عنه: «أن أكون جندياً لدى الحاج قاسم نعمة إلهية».

 

هذا الانصهار بينهما ترجمته النهاية أيضاً: فقد استشهدا معاً في الضربة الأميركية الإرهابية التي استهدفت موكبهما قرب مطار بغداد في يناير 2020، في محاولة لكسر مشروعهما المشترك لا لإزاحة فردين فقط. غير أنّ رحيلهما لم يكن نهاية الحكاية؛ فذكراهما اليوم في العراق وإيران وبلاد المنطقة تحضر بوصفها رمزاً لوحدة الدم والهدف، ونموذجاً لقادة تجاوزوا الذات إلى قضية أوسع من حدود الجغرافيا والسياسة: قضية الدفاع عن الإنسان والهوية والمستقبل.

 

أولاً: الجذور التاريخية – من سياقات المقاومة إلى الشراكة

 

تعود جذور العلاقة بين الشهيدين إلى ما قبل ظهور تنظيم داعش الإرهابي بسنوات طويلة؛ إذ ربطتهما ساحات المقاومة منذ الثمانينيات، حين برز الشهيد أبو مهدي المهندس ضمن قيادات عراقية معارضة لنظام صدام المجرم، فيما كان الشهيد سليماني يصعد نجمه داخل القوات الإيرانية خلال مرحلة الدفاع المقدس. هذه الخلفية صنعت لغة مشتركة بينهما: لغة الحروب الوجودية لا السياسية العابرة. وعند سقوط بغداد عام 2003 وبروز فراغ السلطة، بدأ الحاج أبومهدي المهندس – بصفته شخصية عراقية لها شرعية اجتماعية وسياسية – التواصل مع الحاج قاسم سليماني الذي كان يتحرك في العراق ضمن مهام مرتبطة بالأمن الإيراني وموقع العراق في معادلة الإقليم.

 

هذا القرب المبكر أوجد أساس الثقة قبل أن تتبلور لاحقاً في مرحلة «المعركة الكبرى» ضد داعش الإرهابي.

 

ثانياً: البعد الإنساني – علاقة تتجاوز الرتب والوظائف

 

تجمع الشهادات – من قيادات الحشد الشعبي وقادة حزب الله وعدد من شخصيات عراقية – على أن العلاقة بين الرجلين لم تكن علاقة قائد بضابط، أو «إيراني بعراقي»، بل علاقة أخوية تقوم على:

 

  • الاحترام الشخصي الكامل: لم يكن أحدهما يأمر الآخر بصيغة فوقية، بل كان القرار يصاغ جماعياً بعد نقاش.
  • الرفقة الوجدانية: كانا يحرصان على تقاسم طعام المقاتلين والسهر على الخطوط الأمامية، في مشهد يبني الانتماء قبل الأوامر.
  • الثقة المطلقة: كان الشهيد المهندس – وفق شهادات عراقية – الشخص الوحيد الذي يسلّم له الشهيد سليماني مفاتيح القرار الميداني في العراق في مواجهة الإرهاب دون حاجة للعودة إلى طهران.

 

امتزج الجانب العسكري بالروح الإنسانية؛ حتى إن كثيراً من المقاتلين يروون أن مجرد وصولهما إلى الجبهة كان كفيلاً برفع المعنويات، لأن حضورهما كان يعني أن القائد لا يرسل الناس إلى الموت، بل يذهب معهم.

 

ثالثاً: التناغم القيادي – توزيع أدوار لا يحتاج إلى توقيع

 

تُمثّل العلاقة بينهما نموذجاً نادراً في القيادة المشتركة. بينما اعتمد الشهيد سليماني استراتيجية «العقل المركزي – الشبكة الواسعة» للدعم الإقليمي، كان الشهيد المهندس يترجم هذه الاستراتيجية على الأرض وفق آليات عراقية محلية.

 

لم تكن العلاقة بين الشهيد الحاج قاسم سليماني والشهيد الحاج أبو مهدي المهندس مجرد تعاون ميداني ظرفي، بل كانت نموذجاً متقدماً لوحدة القيادة في بيئة حرب مفتوحة متعددة الجبهات.

 

تجسّد هذا التناغم في توزيع أدوار واضح، مكّن المشروع من الاستمرار والنمو دون ازدواجية أو تضارب. فقد مثّل سليماني العقل الاستراتيجي الذي صاغ الرؤية الكبرى للصراع ورسم الإطار الجيواستراتيجي لمحور المقاومة، رابطاً بين الساحات، بينما عمل الشهيد المهندس على تجميع القوى المحلية والمجموعات المتفرقة ضمن بنية مؤسسية واحدة أطلق عليها لاحقاً اسم «الحشد الشعبي».

 

وبينما تنقّل الشهيد سليماني بين الجبهات لتنسيق خطوط الدعم والخبرات والسلاح وتثبيت الارتباطات العابرة للحدود، بقي الشهيد المهندس قائداً ميدانياً ثابتاً يقود عمليات التحرير ويعيد هيكلة نواة القوة العراقية من الداخل.

 

هذا التكامل لم يكن مجرد توزيع ميكانيكي للمهام، بل كان فلسفة مشتركة تقوم على هدف مركزي واحد: منع تقسيم المنطقة ومنع سقوط العراق، واعتماد أدوات مرنة قادرة على الصمود والتوسع – من الحشد الشعبي إلى القوات الرديفة وشبكات الدعم اللوجستي – ما جعل العلاقة بين الرجلين تعبيراً حيّاً عن معادلة: رؤية تصنع المحور – وتنفيذ يصنع الأرض.

 

رابعاً: المنجز المشترك – ما الذي صنعاه معاً؟

 

لا يمكن فصل إنجازات الشهيد سليماني في العراق عن الشهيد المهندس، لأن كثيراً منها لم يكن ممكناً من دون ازدواجية الدور:

 

1-اختراق لحظة الانهيار بعد سقوط الموصل

عام 2014، كان المشهد العراقي يتجه نحو كارثة: الموصل سقطت، و«داعش» على أبواب بغداد. وفي تلك اللحظة تحديداً، وصل الشهيد سليماني إلى العراق خلال ساعات – وفق تقارير نيويورك تايمز – ودخل اجتماعاً مصيرياً مع الشهيد المهندس وعدد من القادة لتحديد شكل المواجهة.

النتيجة: إصدار فتوى المرجعية، وتكوين نواة «الحشد الشعبي»، وهو المشروع الذي صاغ المهندس بنيته التنظيمية، بينما قدّم الشهيد سليماني الدعم والخبرة والسلاح والهيكلة.

 

2-تحرير المدن العراقية الكبرى

كان الشهيد المهندس يقود عمليات آمرلي وجرف الصخر وتكريت والفلوجة والموصل ميدانياً، بينما كان الشهيد سليماني يشرف على مسارات الدعم والتنسيق عبر دمشق وبغداد وطهران، وفق ما وثقته مراكز RAND وCSIS.

 

3-منع الحرب الأهلية داخل العراق

بحسب شهادات سياسية عراقية، لعب الرجلان دور «مهدّئ التوترات»، إذ عملا على إبقاء الحشد قوة وطنية لا طائفية، ومنعوا انفجار الداخل العراقي بما كان سيغرق البلاد في حرب مذهبية.

 

خامساً: الرمز المشترك – لماذا الاستشهاد معاً؟

 

لم يكن استشهادهما في طائرة واحدة صدفة؛ بل كان – في القراءة الرمزية – تتويجاً لعلاقة بدأت مشتركة وانتهت كذلك.

المصادر الأميركية نفسها تعترف (وفق تصريحات ماكينزي وملفات الاستخبارات المنشورة بعد 2020) بأن استهداف أحدهما دون الآخر كان سيُبقي «نصف المشروع» حيّاً. لذلك كان قرار الاغتيال مزدوجاً.

 

هذه اللحظة – بحسب صحافة بريطانية مثل Chatham House – خلقت «أسطورة سياسية – اجتماعية» مفادها:أن الدماء المشتركة تصنع هوية مشتركة.

 

سادساً: الإرث المستمر – هل انتهى المشروع بعدهما؟

 

رغم الرهان الأميركي على أن اغتيالهما سيكسر العمود الفقري لهيكل المقاومة، يقدّم الواقع ما يعاكس ذلك:

 

  • الحشد الشعبي ما زال مؤسسة فاعلة.
  • الدعم الإقليمي لم يُقطع، بل ازداد تنظيماً.
  • فكرة «المحور» توسعت لتشمل اليمن والبحر الأحمر.
  • رمزية الشهادة أصبحت – في الوعي الشعبي – مكافئاً للشرعية، لا للهزيمة.

 

وبذلك أصبح الاثنان ذاكرةً ومؤسسةً في آن واحد: ذاكرة تذكّر بأن الهزيمة ليست قدراً، ومؤسسة مستمرة بفضل من صاغها.

 

الخلاصة:

 

تمنحنا قراءة العلاقة بين الشهيدين سليماني والمهندس نموذجاً لفهم التحولات العسكرية والسياسية في المنطقة:

لم يكن مشروعهما قائماً على المال ولا على التحالفات الورقية، بل على الثقة – الاندماج – القدوة – والموت المشترك.

ولذلك، تبقى صورتهما اليوم أكثر حضوراً بعد الاستشهاد، لأن المشروع الذي حملوه صار أكبر من الأشخاص.

 

المصدر: الوفاق/ خاص