شارع العرب في برلين.. رواية المقاومة على الجدران

حين تمشون في شارع العرب ترون جدرانه ونوافذه وأبوابه تتضامن مع فلسطين؛ فمثلاً ثمّة بالخطّ الأحمر العريض كلمة "قاوم".

2023-04-09

يجعل المغترب من المكان ملكيّة خاصّة له، إلى درجة أن يسمّيه بلقبه؛ لأنّه يعكس ويعيش ويمارس هويّته وذاتيّته فيصنع منه، مهما كانت قوانينه وسياسته؛ بيته ومدينته، رغم البعد عن أرض الوطن. وذلك ما ينطبق على “زقاق الشمس”، الشارع الّذي يقع في برلين، ويُطلق عليه العرب المغتربون في ألمانيا “شارع العرب”. لا ترتبط هويّة المكان بموقعه الجغرافيّ كما يرتبط به قاطنوه، بطريقة ممارسة الحياة، وسُبل التجربة والتجسيد في الحياة المعيشة.

زقاق الشمس… شارع العرب

كان يوماً مشمساً، وقرّرت أن أتمشّى على طول الشارع. الشارع عشوائيّ ومكدَّس بالناس، لا أسمع سوى اللغة العربيّة باللهجات الشاميّة المتعدّدة، ويغلب عليها اللهجتان الفلسطينيّة والسوريّة. ملامح الشارع وهويّته عربيّة، تشبه الكثير من معالمه وتفاصيله بلادنا، وشعرت، عندما خطوت فيه لأوّل مرّة، كأنّني أتمشّى في حَواري المخيّم، وأرى وجوه جيراني المألوفة، وكأنّني مسكت يد أمّي خجلاً وخوفاً من النظرات حولي.

الشارع عشوائيّ، حيث تجد محلّات الملابس، والمطاعم، ومحلّات الخضار والفواكه، والكافيهات واستراحات الأرجيلة، ومحلّات الأدوات المنزليّة بجانب بعضها بعضاً. أسماه العرب “شارع العرب”؛ لأنّ أغلب المحلّات التجاريّة والمطاعم عربيّة الهويّة والثقافة. كُتِبَتْ أسماء المحلّات باللغة العربيّة؛ فمنها ما سُمِّي بالدمشقيّ، وفيروز، وأمّ كلثوم، والأمانة، وغيرها الكثير من الأسماء. وتفوح في الشارع رائحة الفول والفلافل ومناقيش الزعتر والكنافة والقهوة العربيّة.

عندما نزلت من محطّة القطار “هيرمن”، الواقعة بالقرب من الشارع، وجدت حائطاً عريضاً في مركز ساحة المحطّة، عليه رسمة لحنظلة وكتابات عن فلسطين، ثمّ قطعت الشارع، ورأيت اسمه “Sonnenallee”، مكتوباً على لوح صغير معلّق على عمود كهربائيّ. يعني الاسم باللغة العربيّة “زقاق الشمس”، وبالإنجليزيّة (Sun Alley) تحت اسم الشارع بالألمانيّة وجدت ملصقاً صغيراً يقول: (Free Palestine)، أي “فلنحرّر فلسطين”.

شارع الغرافيتي

بالعودة إلى “شارع العرب”، فحين تمشون في الشارع ترون جدرانه ونوافذه وأبوابه تتضامن مع فلسطين؛ فمثلاً، ثمّة بالخطّ الأحمر العريض كلمة “قاوم”، وجملة الشهيد باسل الأعرج المشهورة: “المقاومة جدوى مستمرّة”، و”الصهيونيّة عنصريّة”، و “الحرّيّة لغزّة”، و”حيفا أحلى من برلين”، وصورة لفلسطين باللون الأحمر، تتخلّلها كتابة باللون الأسود العريض تقول: “لن نتخلّى عن فلسطين”، و”المجد للمقاومة في غزّة”، وغيرها الكثير.

لكن أن تجد كتابات تحثّ على المقاومة المسلّحة، مثل عبارة تقول: “المجد للطلقة والموت لإسرائيل”، فهي تمثّل قمّة الجرأة في ظلّ سياسات الحصار على الصوت الفلسطيني.

كتبت جولي بيتيت مقالاً عن الغرافيتي والكتابة على الجدران خلال الانتفاضة في الضفّة الغربيّة؛ ضمن نتاج ثقافيّ فلسطينيّ، وبوصفه وسيلة مقاومة ضدّ سياسات الاحتلال المستمرّة، فأعربت عن رأيها في أنّ الكتابة على الجدران ليست فقط مظهراً من مظاهر التحدّي وعدم الخنوع، بل إنّ هذه الكتابات تحمل (Agency)، أي إرادة قوّة للإطاحة بالتسلسل الهرميّ في السلطة. وأكملت قائلة بأنّها ترى في الكتابات تعبيراً عن الأصوات الفلسطينيّة في المقاومة خلال الانتفاضة، واعتبرتها وسيلة لتحدّي عجز الاستعمار في المراقبة والسيطرة على كلّ مكان؛ فالكتابة على الجدران تعتبر صوتاً لمن لا صوت له؛ إذ تقول: “بهذا المعنى، أخذت الغرافيتي موقعها ضمن أشكال المقاومة الأخرى؛ إذ كوّنت صوتاً لمَنْ لا صوت لهم على المسرح الدوليّ”.

الكتابة على الجدران بوصفها مقاومة

خلال حديث مع عامل في مقهًى في “شارع العرب”، سألته: مع كلّ محاولات الحكومة الألمانيّة في قمع المظاهرات الفلسطينيّة باستخدام القوى البوليسيّة، كيف تستمرّون في إظهار صوتكم؟ فأجابني بلهجة فلسطينيّة ولبنانيّة: “نتظاهر على الحيطان”؛ فالكتابة على الجدران كما يفهمها مظهر من مظاهر العصيان والثورة، والتظاهر ضدّ أساليب القمع الألمانيّة.

لا يخلو الشارع أيضاً من الملصقات واليافطات الّتي تتحدّث عن حقوق الأسرى، وتنعى الشهداء، وتذكر الأبطال؛ فمن الملصقات الّتي استوقفتني تقول: “هناك، خلف القضبان، حيث يتوقّف الزمن، وتبقى الفكرة، تدقّ الجدران لتنبت من صبره في قلوبنا ثورة”، مع صور للأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال. فقضيّة الأسرى من أكثر القضايا الّتي يُتظاهَر من أجلها في برلين، سواء على الجدران أو نوافذ الكافيهات أو  في الشارع.

لا يتوقّف الفلسطينيّون عن الحديث عن وطنهم وحقّهم وشعبهم، حتّى في المنفى؛ فالمقاومة بكلّ أشكالها أسلوب حياة للفلسطينيّين في فلسطين المحتلّة وفي الشتات، هي سعي وعمل أدائي مستمرّ لإثبات الوجود الفلسطينيّ، ورفض لكلّ مظاهر الظلم تجاه قضيّته. وبذلك لا أعني خلق مظهر رومانسيّ للمقاومة في حياة الفلسطينيّين، بل هي جدوى لا بدّ منها؛ لأنّ فلسطين هي الحقّ والماضي والمستقبل الوحيد، كما قال غسّان كنفاني.

 

 

 

 

المصدر: الوفاق - وكالات