باتت أسعار المحروقات من بنزين ومازوت أضعافًا مضاعفة. سعر صفيحة البنزين تضاعف أكثر من 60 مرة، خلال ثلاث سنوات، ما جعل كلفة النقل “تحلّق” عاليًا. وعليه، ارتفعت تكلفة سيارة الأجرة و”الفان” لتصبح كـ”البورصة” وسط فوضى غير مسبوقة في التسعيرات. فوضى يُضاف اليها “لا عدالة” في التسعيرة، فمن ينتقل مسافة قصيرة يدفع كمن ينتقل لمسافة أبعد. طبعًا، لا يتحمّل السائق مسؤولية تلك الفوضى. السائق والراكب يدفعان ثمن غياب سياسة واضحة وشاملة لقطاع النقل في لبنان. ذلك القطاع الذي يرزح تحت وطأة مشكلات ممّا “هبّ ودبّ”.
واقع “اللا عدالة” دفع بمواطنين كُثر الى الشكاية ممّا أسموه “غُبن” يلحقُ بهم، مشجّعين فكرة “عدّاد التاكسي” أو ما يُعرف بـ”taxi meter” كي يُنفق الفرد على قدر ما ينتقل. ولمن لا يعلم، ففكرة نظام العدّاد هي فكرة قديمة جدًا تُستخدم حاليًا في العديد من دول العالم، بحيث يكون العدّاد هو المقياس المستعمل لحساب المسافة المقطوعة ولاحقًا لتحديد التعرفة. وقد ظهرت براءة اختراع خاصة لحساب الأجرة وفق المسافة المقطوعة في عام 1847 وبراءة اختراع أخرى مسجّلة عام 1858، ولكن لم يتم قبول تلك العدّادات من قبل سائقي سيارات الأجرة. وبعد سنوات عدّة من الاختراعات والابتكارات في هذا المجال بدأت معظم سيارات الأجرة ــ بحلول نهاية القرن التاسع عشر ــ باستعمال العدّادات في العديد من الدول حول العالم.
في لبنان، استُخدم نظام العدّادات عام 2015 ولكن “بشكل مصغّر” حيث جرى حصر استخدامه في “تاكسي المطار”. رُبّما لإعطاء صورة جيّدة عن قطاع النقل في لبنان أمام الأجانب القادمين من الخارج. وقد جاء مشروع العدّادات ضمن ثلاثة مشاريع للنقل العام بهدف “التخفيف من زحمة السير وتشجيع اللبنانيين على اعتماد النقل العام”. وبهدف حماية السيّاح من الغش، كما قيل حينها، حيث كانت تُفرض تعرفة عشوائية على الركاب وتسعيرات غير منطقية وكبيرة. أما وفق العدّاد، فالتعرفة متحرّكة بحسب “الكيلومتراج” والمسافة المقطوعة. حينها، التزمت بعض السيارات بتركيب العدّاد والبعض الآخر لم يلتزم الى أن فشلت التجربة. فهل بإمكان لبنان حاليًا تحقيق ما يُطالب به المواطنون من تنظيم قطاع النقل وفق العدّادات وتوسيع نطاق التجربة لتشمل كل المناطق، أم ثمّة معوقات تحول دون ذلك؟.
لدى سؤاله عن قضية العدّادات، يُسارع رئيس اتحادات ونقابات قطاع النقل البري في لبنان بسام طليس الى الإشارة إلى أنّ “فكرة العدّاد لم تنجح في لبنان”. تاريخيًا، المكان الذي يجب أن تكون سيارات الأجرة العاملة فيه على العدّاد هو المطار، لكن عمليًا لم تنجح التجربة التي استمرّت لفترة طويلة. وفق المتحدّث، تبين حينها أن العملية تخلّلها غش وتلاعب اذ “بكبسة زر” يتمكّن السائق من إطالة المسافة المقطوعة لرفع التعرفة.
العدّاد “ثقافة”
يشدّد طليس على أنّ العدّاد “ثقافة” قبل أي شيء آخر، وهي التي تُرسي فارقًا بين أداء سائق وآخر، لكنّه يأسف من أنّ قطاع النقل في لبنان متخبّط. ثمّة تعديات بالجملة على هذا القطاع؛ فمن له علاقة ومن ليس له علاقة يعمل في هذا المجال. على سبيل المثال، سيّارات “خصوصية” تعمل بالأجرة، والموظّف يعمل “بعد الظهر” على السيارة العمومية، وأصحاب دراجات نارية باتوا يعملون لنقل الركاب، وأجانب (غير لبنانيين) باتوا يمتهنون قيادة “التاكسي”. وعليه فالأزمة الاقتصادية والاجتماعية جعلت الأمور فالتة من عقالها، حيث لا حسيب ولا رقيب ما يُحدث فوضى في هذا القطاع.
قضية العدّادات تحتاج الى دراسة شاملة
لكن لنفترض أن هناك عدّادًا لسيارات الأجرة في لبنان، يقول طليس، فمن هي الجهة الرسمية التي ستسعّر العدّاد، وتحدّد تعرفة “الكيلومتر” الواحد؟ يسأل ويجيب على نفسه بالإشارة الى أنّ ثمّة معوقات عديدة تحول دون تحديد تعرفة للعدّاد سواء أكانت الجهة الرسمية وزارة الأشغال أم اتحاد النقل البري. بكل الأحوال، ثمّة مشكلة ستُواجه أي جهة رسمية لجهة وفق أي سعر ستضع التعرفة. وفق أي سعر صرف للدولار، وأي سعر لصفيحة البنزين والمازوت وقطع غيار السيارات وكلفة المعيشة؟. كل شيء مرتبط ببعضه البعض. ولو سلّمنا جدلًا أننا قد نستخدم العدّاد، فلا بد أن يكون لهذا العدّاد قاعدة، وهذا ما ليس متوفرًا حتى الآن في لبنان. وفق طليس، نحن نمُر بأزمة، وهذه الأزمة لا ينتهي حلها بين ليلة وضحاها بل تحتاج نقاشًا هادئًا ومسؤولًا بين مختلف الوزرات؛ الأشغال العامة والنقل، الداخلية، السياحة، المالية والنقابات. قضية العدّادات تحتاج الى دراسة شاملة وموضوعية وبهدوء بعيدًا عن الخطابات الرنانة و”الضحك” على المواطنين.
لماذا تنجح العدّادات في الخارج؟ ما المقوّمات؟ يؤكّد طليس أنّ ثمّة فارقًا بيننا وبين الخارج. نحن نفتقد أولًا الى النظام العام. يُعطي مثالًا، الشقيقة سوريا التي مرّت بحرب كونية على مدى أكثر من عقد من الزمن لم يغب فيها النظام أبدًا في كل المدن وهذا يبدو واضحًا في قطاع النقل. وفق طليس، نحتاج أولًا الى دولة وأنظمة وأشخاص يُطبّقون النظام من رجال الدولة قبل المواطنين. إضافة الى غياب النظام،
ثمّة مشاكل أخرى تحول دون نجاح العدّاد تتمثّل بوضع الطرقات المزري، ففي أي زحمة سير سيخسر السائق. وفق طليس، اعتماد “العدّاد” من المفترض أن يكون وفق طريق مفتوحة بحيث يحفظ حق السائق ولا يؤذي المواطن. ولكن اذا جرى تركيب العداد وواجه السائق زحمة سير خصوصًا في ظل الطرقات غير المجهزة، حينها سيبقى العدّاد ثابتًا بينما خزّان المحروقات “يعمل”، ما يعني أنّ السائق سيدفع من جيبه ثمن البنزين. وعليه، يرى طليس أنّ العمل بنظام العدّاد دونه معوقات لها علاقة بالبنى التحتية والثقافة العامة كي لا يكون هناك غش وكي تنجح التجربة مع حفظ حق السائق والراكب معًا.
هل نستطيع إنجاز ثلاث تعرفات في اليوم على غرار جداول المحروقات؟!
وحول الفوضى الحاصلة حاليًا في سوق “تعرفة” النقل حيث تغيب التعرفة الموحدة في الكثير من الأحيان، يوضح طليس أنّ هذه الفوضى سببها عدم وجود تعرفة. وعدم وجود تعرفة سببه عدم الاستقرار في سعر صرف الدولار. وفي هذا السياق، يوضح طليس أن هذه النقطة كانت مدار بحث مطوّل مرارًا مع وزير الأشغال في حكومة تصريف الأعمال الدكتور علي حمية الذي يبدو متفهمًا ومتعاونًا جدًا فهو “الرئيس الفخري لقطاع النقل البري في لبنان”، لكن ثمة أمور خارجة عن إرادته ــ يقول طليس ــ الذي يوضح أنّ حمية يواجه مشكلة في هذا الصدد، فلو افترضنا أنه أنجز تعرفة، هل يستطيع إنجاز ثلاث تعرفات في اليوم على غرار جداول المحروقات وسط التلاعب الحاصل بسعر صرف الدولار ومعه أسعار المحروقات حيث يبدو سعر صرف الدولار قبل الضهر شيئا وبعد الظهر شيئا آخر؟
وهنا، يرى طليس أن التعرفة المنطقية لكلفة التنقل اليوم هي 240 ألف ليرة ولكن هل يتحملها المواطن؟ التعرفة المذكورة ــ وفق طليس ــ تأتي قياسًا بالأسعار السابقة؛ فعندما كانت صفيحة البنزين بـ30 ألف ليرة كانت تعرفة “السرفيس” 4000 ليرة، أما اليوم فسعر الصفيحة يتخطى المليون و700 ألف ليرة، ونحن هنا نتحدث عن بنزين فقط ولا نتحدّث عن غلاء معيشة وقطع غيار للسيارات.
في حال لم يُكتب لتجربة العدّاد أن تنطلق، هل من الممكن أن يتم تحديد تعرفات مختلفة تلحظ المسافات المقطوعة داخل المنطقة الواحدة؟ يُجيب طليس عن هذا السؤال بالإشارة الى أنّ كل شيء قابل للنقاش والتنفيذ وفق المنطق والعقل والموضوعية والمسؤولية ولكن هذا الأمر يتطلب معالجة المشكلات الجوهرية التي يعاني منها هذا القطاع من تعديات وعدم استقرار في سعر الصرف.
وفي ختام حديثه، يشدّد طليس على أنّ قطاع النقل في لبنان يدفع ثمن كل السياسات. يدفع ثمن الارتفاع المتواصل بسعر صرف الدولار، وأسعار المحروقات وقطع الغيار وغلاء المعيشة وعدم الاستقرار. تمامًا كما يدفع السائق ثمن مشاكله ونقاشه مع الركاب الذين يشبهونه كثيرًا فهم أبناء بيئته. تلك المشكلات دفعت بما يقارب 25 بالمئة من أصحاب سيارات الأجرة و”الفانات” الى إيقاف عملهم أو تأجير سياراتهم، يختم طليس.
العهد