العراق:

“ابن بابل”.. توثيق الغياب

لعل من أبرز ما حقّقه فيلم "ابن بابل" هو توزيع الألم على جميع أهالي العراق بالتساوي، وتوحيد العراقيين بالأسى والغيابات المريرة، مع دمج جيلين من هذا الشعب

2023-04-10

تقترب اللغة السينمائية التي اعتمدها المخرج محمد الدراجي في فيلمه “ابن بابل”* إلى التوثيق من دون أن تتطابق معه، إذ يتوخى الوصول إلى أقصى درجات الواقعية وتصوير مرارات الغياب بأبلغ صورها الحياتية المعاشة.

وانطلاقاً من ذلك اختار قصة فيلمه التي كتبها بنفسه من المرويّات التي سمعها أثناء عودته من الدراسة في بريطانيا، ومنها حكاية عمَّته التي فقدت ابنها وذاب قلبها وهي تبحث عنه، ولتحقيق ذلك أيضاً وقع خياره على شهزادة حسين والطفل ياسر طالب لبطولة فيلمه، رغم أنها المرة الأولى لكليهما التي يقفان فيها أمام الكاميرا.

يبدأ الفيلم (127 دقيقة، إنتاج عام 2009) من الشمال العراقي برحلة تقوم بها الجدّة أم إبراهيم برفقة حفيدها أحمد البالغ من العمر 12 عاماً للبحث عن ابنها ووالد الطفل، وذلك في نيسان/أبريل عام 2003 بعد 3 أسابيع من الاحتلال الأميركي للعراق.

الأمل بلقاء الأب الذي فقدت أخباره بعد حرب الخليج عام 1991 ولم يرَ ابنه نهائياً، يقود الأم التي لا تتقن سوى اللغة الكردية، وحفيدها الذي بات مترجمها عند الضرورة لإتقانه العربية والكردية، من شمال العراق مروراً ببغداد، ثم موقع سجن الناصرية، فبابل في الجنوب.

وخلال رحلتهما يتعرّضان للكثير من المصاعب، أبسطها مصاعب الطريق واضطرارهما لاستقلال وسائط نقل متهالكة تتوقّف فجأةً، إضافة لكونها مزدحمة بالباحثين عن ذويهم في السجون والمقابر الجماعية، وأصعبها تعمُّق الغياب واضمحلال الأمل بالعثور على الأب الذي جُنِّد غصباً في حرب الخليج ولم يعد منها حتى الآن.

ورغم بساطة الحكاية إلا أن تغليف أبطالها سينمائياً بهذا الكمّ من الحزن والخذلان، كان كفيلاً بتحويل الصحارى والطرقات الفارغة، ومحطات الحافلات العمومية، والسجون المهدّمة، والمقابر الجماعية، إلى حضور باذخ في المعنى والدلالة.

ولعل هذا ما اشتغل عليه الدراجي بلقطاته القريبة والبعيدة، وحركة كاميرته المتأنية، إذ آثر رسم ملامح رحلة البحث المضنية، بعيني أُمّ مؤمنة بأنها ستلتقي ابنها الغائب، وبعقل حفيدها الذي يحاول إيجاد معنى لذاك الغياب، ولضرورة حضور والده في حياته بعد وفاة أمه، فنراه ينضج مع تفاصيل التيه التي يعيشها مع جدته.

يركّز المخرج العراقي على حيثيات إنسانية تُفعِّل نبض فيلمه، كالجدة التي تطالب حفيدها مراراً بقراءة رسالة وصلتها تُعْلِمُها بأن هناك أحياء في سجن الناصرية قد يكون ابنها أحدهم، وتأكيده أن الألم لا يحتاج إلى ترجمة عندما التقت الأم الكردية مع قرينتها العراقية العربية، واستطاعتا التفاهم من دون وسيط.

ومن ذلك أيضاً رفض الطفل أحمد لفكرة موت أبيه وصراخه بين جدران السجن باسمه، ثم البحث عنه في قوائم المقابر الجماعية كشخص بالغ تخلّى عن طفولته في سبيل تحقيق هدفه. وفي الإطار ذاته احتفاظه بالناي الذي كان والده يعزف عليه من دون أن يتخلى عنه ولو للحظة، ثم رغبته بأن يلبس سترة أبيه العسكرية، وبعدها عزوفه عن فكرة أن يصبح جندياً بل يقرّر أن يكون عازفاً للناي.

وتتعزّز تلك الملامح الإنسانية من خلال علاقة أحمد ببائع الدخان الصغير ودفاعه عنه، ثم لحاق الأخير بالحافلة التي انطلقت بأحمد وتركت جدَّته وحيدةً حتى أوقفها وأعاد جمع العائلة. وأيضاً العلاقة التي نشأت مع الشاب موسى النادم على مشاركته في عمليات الإبادة التي قادها حزب البعث العراقي، وكذلك في مشهد أخَّاذ للجدة وهي تشم التراب وتخبر حفيدها بأن أباه مرَّ من هنا.

الأداء المُبهر لشهزادة حسين والطفل ياسر طالب بكل ما اكتنفه من عفوية آسرة وبساطة وعدم تكلُّف كان من النقاط المضيئة في هذا الفيلم، ففي مقابل جسارة الجدّة وحزمها في بعض الأحيان، نرى شقاوة طفل بخياله الواسع وظُرْفِه وحيويته، وكل ذلك يشعّ من عينيهما وملامحهما كخبيرين في فن التمثيل.

وأيضاً هناك بشير الماجد الذي جسّد شخصية موسى فيجعلك تتعاطف مع ندمه وكأنه بمساعدته للجدة وحفيدها إنما يُكفِّر عن شيء من ذنوب ماضيه، لتكون مقولة العجوز عن إيجاد الأعذار لمن يخطئ سيدة الموقف هنا.

ورافقت ارتفاع نبرة الألم في معظم مفاصل الشريط السينمائي ملامح من الغناء الكردي واللطميات التي تؤجّج المشاعر، بحيث أن الموسيقى التصويرية كانت من بيئة الحكاية ذاتها، مع تنويعات لعزف على العود وأخرى على الناي، جاءت مدغمة مع مناخات رحلة الأسى التي لم تدم طويلاً.

فبعد مراجعة كل قوائم أسماء الأحياء في مذبحة الأنفال وغيرها، والبحث في جميع المقابر الجماعية، لم تجد الجدة وحفيدها بُدّاً من العودة إلى ديارهما، وعلى ظهر إحدى الشاحنات الصغيرة، تُعلن الأم نهاية الرحلة بموتها صامتةً، لتترك الحفيد وحيداً بصراخه ودموعه ووعيه الجديد بما حلَّ بملايين العراقيين الذين انقادوا رغماً عنهم إلى موت عميم.

ولعل من أبرز ما حقّقه هذا الفيلم هو توزيع الألم على جميع أهالي العراق بالتساوي، وتوحيد العراقيين بالأسى والغيابات المريرة، مع دمج جيلين من هذا الشعب، الأول قاده الاستبداد إلى حتفه، بينما حمل الجيل الثاني على كتفه تبعات ذاك ومضى نحو مستقبله مُعبَّأً بالأحزان والخيبات المديدة، مُردّداً مع الجدة مقولتها “حينما نفقد أحد أبنائنا نفقد جزءاً منّا”.

* عرض فيلم “ابن بابل” أول من أمس السبت في نادي “سينما آفاق” في دمشق، بمناسبة الذكرى العشرين لاحتلال بغداد، وهو الفيلم الثاني من بين 5 أفلام عربية سيعرضها النادي خلال شهر نيسان/أبريل الجاري.

 

المصدر: الميادين