مشاهد انتقالية أنيقة للغاية

“العَشرة”.. هل عادت الدراما العراقية إلى مسارها الصحيح؟

يُشكل مسلسل "العشرة" دخولاً شجاعاً وجريئاً في قلب الدراما العراقية.

2023-04-11

بعد إغراقها بالعنف والسياسة، الدراما العراقية تقدّم هذا العام مسلسل “العَشرة”، الذي نجح في الاقتراب من الواقع بجوه الوجداني الصادق، معطياً بارقة الأمل بإعادة الدراما العراقية إلى مسارها الصحيح.

في 17 تشرين الأول/أكتوبر سنة 2016، من “محطة بغداد العالمية”، بدأت رحلة “العشرة” في تكوين مشهد الأيام العصيبة لجنود “الحشد الشعبي”، والحالة النفسية التي رافقتهم خلال الحرب ضد التنظيمات الإرهابية، إلى جانب المرأة العراقية الصابرة. في دراما أثبت بطلاها، الفنانة آلاء حسين والفنان خليل فاضل، أنّ الأعمال العراقية تولد من رحم المعاناة، بواقعية محضة تلامس الوجدان وتخاطب الذات الإنسانية. أعمال يمكنها إعادة ترميم المجتمع بأهداف نبيلة، بعيداً عن النمطية في الكوميديا والسياسة.
محطة القطار.. افتتاح مؤثر

لا يوجد شيء يضاهي الشعور بحالة الغرق مع البناء العاطفي في كل مشهد من حلقات المسلسل، إلى جانب سرد درامي محكم، يضع المشاهد في حالة من الاستنتاجات التي ستؤول إليها نهاية كل حلقة، وهي نهاية تعتمد على عنصر الصدمة أو المفاجأة، ومثال ذلك تلك الومضات التي اعتمدتها الحلقة الأولى، بين متطوع في الحشد الشعبي وموظفة في المحطة.

مشاهد انتقالية أنيقة للغاية، من حالة الصمت إلى الإعجاب والحوار القصير، إلى العاطفة المتّقدة، ثم الوحشة وتلقّي نبأ الاستشهاد. كل ذلك من مكان واحد (شباك التذاكر)، رمز اللقاء والوداع. اللحظة التي يعيش عليها البطل لمدة 21 يوماً من كل شهر، وهو في منتصف الموت.
أحداث بدون رتوش

يُشكل مسلسل “العشرة” للمخرج علي حديد، دخولاً شجاعاً وجريئاً في قلب الدراما العراقية، ومنحى جديداً فاق التوقعات في تناول الشاشة لمسألة حياة المدافعين عن الوطن، خلال سنوات الحرب ضد تنظيم “داعش”.

لحوالى 15 دقيقة من كل حلقة، يصنع لنا الثنائي حسين وفاضل تفاصيل مذهلة عن قصص المجاهدين والمقاومين، والعشاق وكل أحزان العراقيين، مثّلت مرآة لصورة المعاناة والفقدان من جهة، وصورة البطولة من جهة أخرى، وامتلأت بالأحاسيس العميقة من دون أي رتوش، وتغلّب فيها الممثل على الواقع نفسه، بل عاشه في كل ثانية، واستطاع أن يجعل نفسه لائقاً في عقل الناس، يشبه حياتهم، وينغمس في أفكارهم ومشاعرهم.

كما قدّمت تلك التفاصيل نماذج إنسانية واقعية، على رأسها الجندي المجاهد إلى جانب الأخت، الزوجة، الحبيبة، القارئة، الصحفية، والطبيبة، جرت مثل النهر من دون توقف تحت عناوين: الإيثار والتضحية، الخوف والصبر، الحب والاشتياق، الشرف وعزة النفس، التفاؤل واليأس، الموت والشهادة.

تقول الفنانة آلاء حسين: “نهدي جهدنا لكل المقاتلين الشباب، الذين رحلوا من أجل أن نبقى ونعيش بسلام”، كما تحدّثت عن صعوبة ما واجهته خلال التصوير: “المسلسل عمل أخذ من صحتي وقلبي وعافيتي بالحقيقة، لكنّه من أجمل محطات حياتي الفنية ومسيرتي”.

فيما يستشعر الفنان خليل فاضل عذاب العراقي صاحب النخوة، في أداء مميز للغاية، يستحقّ أن نقول عنه إنه “مدرسة خاصة”، عمل يحتفي بنفسه لأنّه أجمل ما قُدم حتى اللحظة.
كلاكيت: الحُب والحرب

الرجل والمرأة في إطار اللوحات “العَشرة” مثّلا ثنائياً متلازماً، يلتقيان ويفترقان في إطار الحب والحرب، ولكن لكلٍّ منهما دور خاص، فالأول يحمل السلاح دفاعاً عن الأرض والوطن، وينتقل بين الرماد والدخان والأنقاض والنخيل، راسماً حلمه بالحب والنصر. والثانية تدافع عن الحياة؛ مرة تحتضن أولادها، وأخرى تقع في الحُب من النظرة الأولى، وحيناً تفقد قلبها، بينما تنقل الأخرى الصورة وتقرأ رواية الأيام القاسية، بعيون أنهكها الغياب والوداع.

وهنا أتى دور غرفة كتابة الحلقات بعد الكاميرا في تكوين علاقة الحب والحرب، علاقة تتشابه في أحاسيسها، تتنافس في مخزون كلماتها، أشبه بتلك العلاقة بين الماء والنار، التي لم نكتشفها بعد، لكنّنا رأيناها من خلال أعين من جسّدها.

هذه الغرفة أعطتنا أملاً كبيراً بأنّ الدراما العراقية قادرة على احتواء المادة المكتوبة الجادة والهادفة، وأنّها ستنجح مستقبلاً في توظيف الرواية والقصة إذا ما أُتِيح لها الاشتغال الفني الرفيع كما في هذا المسلسل.
نص بلهجة الحُب

في الحلقة الـ8، التي حملت عنوان “الرواية”، يمكن أن نرتشف مشاعر الحب وسط الرصاص ودوي الانفجارات خلال معارك تحرير الموصل. ومن غرفة مليئة بالكتب، نسمع الحوار التالي بين الجندي رياض والقارئة دنيا:

– وتخيلي بنص هاي الحرب وإلهم خُلگـ يحبون؟!

– رواية بعد… مبالغات.

يتحرك رياض للخروج من فتحة كبيرة في جدار الغرفة، قائلاً: أحلى شي إلي يطلع منا وتجيه طلقة بقلبگه، ويموت گدام عينه.

– هذا المشهد الثاني.

– المشهد الثاني.

– يموت؟

– لا ميصير يموت… بعدين ميصير أگلچ، آني جاي أحرگ عليچ متعة القراءة. لمن أرجعلچ هذا الكتاب، أجيبلچ هاي الرواية.

– أتمنى.

– يالله أروح آني. ديري بالچ على نفسچ.
أمل للدراما العراقية

خلال سنوات غابت الدراما العراقية، بعد أن كانت تأخذ حيزاً من حياتنا، وذلك بسبب سيادة برامج الكوميديا التي تعتمد على أسلوب التهريج والكلام البذيء، واقتصار الأعمال التلفزيونية على قصص مكررة تتناول العنف والسياسة، والبعض منها كان يظهر المرأة بشكل ضعيف للغاية، وفي مستوى فني هش.

لكنَّ الاقتراب من الواقع في “العَشرة” بجوه الوجداني الصادق، مثّل نقطة تحول كبيرة في إعطاء الأمل بإعادة الدراما العراقية إلى مسارها الصحيح. هو مسار يخلّد الأبطال، ويعبّر عما وراء العسكر والحروب من مشاعر نقية، تجعل المشاهد الفقير درامياً يبكي من أول حلقة. إنها تغذية جديدة لم نعهدها منذ عقود.
للمقاومة جناحان: سلاح وفن

استطاعت مديرية الإعلام العامة في “الحشد الشعبي”، عبر الإخراج وغرفة الكتابة وإدارتَي التصوير والإنتاج، أن تُقدّم عملاً درامياً متكاملاً، في سلسلة أشبه بالأشرطة السينمائية القصيرة، تعتمد على حوارات بلهجات عراقية خالصة ومعبرة، تختصر كل الجغرافيا، وترافقها إيماءات جسدية صعبة إلا لمن يجيدها، تعطي نهكة فنية لا تفسح أي مجال للنقد السلبي.

وأثبت صناع “العَشرة” أنّ المقاومة والقوات العراقية لا تمتلك سلاحاً فقط يدافع عن الوطن، بل فنّاً يستلهم واقعاً ويستعيد تاريخاً، وينافس ما تقدّمه شركات الإنتاج والقنوات التلفزيونية، بأقل التكاليف وبجهود ذاتية لا تعتمد على الخارج.

وعندما يلتقي الفن بقيم الجمال والحق، يتجسّد في قصيدة ونثر ولوحة ولحن، أو دراما ممثل. يقاوم الظلم بكل أشكاله، ويزرع الوعي والفكر والصواب والصدق والإيمان وثقافة الانتصار.

إنه انتصار في توثيق التاريخ، مستمد من روايات الأبطال الأصليين وشهادات الآخرين، وانتصار على تشويه صورة النضال، والجنوبي العراقي الغيور على أهله، في جميع الاتجاهات.

أمين سعدي – العراق

المصدر: الوفاق - وكالات