كثيرة هي العادات والتقاليد والطقوس التي تخلى عنها السوريون منذ عام 2011 وحتى اليوم، جراء الأزمة الاقتصادية التي أرخت بثقلها على كافة مفاصل الحياة في البلاد، وبالتأكيد فإن شهر رمضان المُبارك كان له نصيب كبير من التغيير الحاصل، فالظروف المعيشية كانت حملاً ثقيلاً على المجتمع السوري، ولم يعد رمضان اليوم يشبه رمضان ما قبل الأزمة.
مع الارتفاع غير المسبوق في أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، يضطر الصائمون خلال الشهر الكريم لتقليص نفقاتهم إلى الحدود الدنيا، كما أن الموائد الرمضانية باتت تشهد اختفاء أصناف متلاحقة من الطعام والشراب والحلويات، نتيجة ارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق، بعدما كانت تلك الأصناف ضيفاً دائماً على موائد السوريين.
أمام هذا الواقع، تشهد العاصمة السورية دمشق خلال شهر رمضان الحالي ظهور مشهدين اجتماعيين متناقضين تماماً بناء على الوضع المعيشي:
الأول: هو المطاعم التي تقدم وجبات الإفطار للصائمين يومياً لكن بمبالغ مالية كبيرة، يعجز معظم السوريين عن دفعها، حيث باتت تلك المطاعم مخصصة لفئات محددة من المجتمع.
الثاني: حالة الفقر المدقع التي تعيشه شريحة لا بأس بها من السوريين، الذين وجدوا أنفسهم -لا إرادياً- ضحايا للأزمة الاقتصادية التي يشهدها بلدهم، فباتوا غير قادرين على تأمين قوت يومهم أو حتى وجبة إفطارهم البسيطة، وهو ما أدى إلى تزايد نشاط المؤسسات المجتمعية والجمعيات الخيرية بهدف تأمين وجبات الإفطار بشكلٍ يومي للمحتاجين.
التكافل الاجتماعي في رمضان
جمعية “القدس الخيرية” في العاصمة دمشق، واحدة من الجمعيات العديدة التي تنشط خلال شهر رمضان المُبارك لتقديم الخدمات ووجبات الطعام والسلال الغذائية لمساعدة المحتاجين.
ويشير نزار مسوتي رئيس مجلس إدارة “القدس الخيرية” إلى أن عمل الجمعية خلال الشهر الكريم يندرج ضمن 4 مشاريع أساسية، وهي:
“سكبة خير”: هذا المشروع عبارة عن مطبخ يُقدم 500 وجبة إفطار يومياً إلى المحتاجين من الأهالي المكفولين من قبل الجمعية وأحياناً من غير المكفولين.
“ولو بشق تمرة”: هو مشروع ينفذه مجموعة من المتطوعين يومياً، عبر تقديم وجبة إفطار بسيطة “مياه – تمر – بسكويت” ضمن شوارع العاصمة لمن فاته موعد الإفطار، بهدف تحقيق التكافل الاجتماعي.
بالإضافة إلى توزيع سلال غذائية على عدد من المحتاجين ضمن أحياء دمشق. أما المشروع الأخير فهو إجراء عمليات تنظيف لبعض الأحياء ضمن العاصمة وتحديداً في منطقة مخيم اليرموك، بهدف إزالة الأنقاض الموجودة داخله.
عمل الجمعيات الخيرية داخل العاصمة لم يبدأ خلال شهر رمضان الحالي، بل انطلق منذ سنوات عديدة، حيث يؤكد عصام حبال رئيس مجلس إدارة جمعية ساعد أن الجمعية بدأت عملها عام 2011 بحملة كبيرة تحت عنوان “خسا الجوع”، وكان مركز الحملة عند الباب الخلفي للجامع الأموي وسط دمشق.
ويضيف حبال أن الحملة بدأت بشكل محدود، لكن في العام 2017 شهد العمل نقلة نوعية، حيث وصل عدد الوجبات الموزعة إلى نحو مليون و57 ألف وجبة في محافظات دمشق وحماه والسويداء وحلب وطرطوس واللاذقية، مشيراً إلى أنه خلال العام الحالي تم افتتاح مركز جديد للحملة في حلب بعد كارثة الزلزال المدمّر، وهو ينتج 12 ألف وجبة يومياً، بالإضافة إلى استمرار العمل في مراكز دمشق، مع استمرار العمل لزيادة عدد الوجبات المُقدمة لتصل إلى أكبر شريحة ممكنة.
المطاعم من نصيب طبقة محددة فقط
لا تبدو دمشق اليوم في أفضل أحوالها وهي تعيش أجواء شهر رمضان المُبارك، فالمدينة التي كانت تتباهى برونقها وحيويتها وطقوسها الفريدة وتقاليدها المميزة، تبدو اليوم حزينة وشاحبة والعجز يرتسم على وجوه أهلها، فالأزمة الاقتصادية التي تشهدها سوريا، انعكست بشكلٍ مباشر على الوضع المعيشي للسوريين.
بالتأكيد فقد أصبحت المطاعم بشكل عام، وخلال إفطار شهر رمضان بشكلٍ خاص من نصيب فئة قليلة داخل المجتمع السوري، إذ يصعب على معظم السوريين تحمل النفقات الخيالية التي تفرضها تلك المطاعم على الزبائن، لذلك يفضّل السوريون الإفطار داخل منازلهم، بما تيسّر من أصناف الطعام التي تتناسب مع الإمكانيات المادية لكل عائلة.
خلال جولة على المطاعم ضمن أحياء دمشق، نجد أن الأسعار تتفاوت حسب جودة المطعم والمنطقة المتواجد فيها، لكن بشكلٍ عام فإن معظم الأسعار لا تتناسب مع القدرة الشرائية لشرائح واسعة من السوريين، فسعر وجبة الإفطار لشخص واحد يتراوح ما بين 75 ألف ليرة (10 دولار) إلى 150 ألف ليرة (20 دولار)، علماً أن متوسط الرواتب في الدوائر الحكومية يبلغ 150 ألف ليرة، أيّ أن سعر وجبة الإفطار لشخصٍ واحد يعادل راتب موظف لشهرٍ كامل.
إن أسعار الوجبات خلال شهر رمضان هذا العام تضاعفت عن العام الفائت، نتيجة عوامل عديدة، وهو ما انعكس بالمجمل على أسعار المطاعم، ليس فقط ضمن شهر رمضان وإنما خارجه أيضاً.
ويعزو أصحاب المطاعم الارتفاع الكبير في أسعار الوجبات الرمضانية خلال العام الحالي مقارنة بالأعوام السابقة إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج، حيث يقول بشار الصايغ “صاحب مطعم في منطقة المزة بدمشق” : “لا يمكن النظر إلى ارتفاع أسعار الوجبات في رمضان بمعزل عن الوضع العام في البلد، فأسعار المواد الأولية تضاعفت عن السنة الماضية، إضافة إلى الارتفاع المتلاحق في أسعار المشتقات النفطية، وهو ما انعكس على تكاليف النقل، وأجور الكهرباء، وتكاليف اليد العاملة، إضافة إلى زيادة الضرائب، وبالتالي فإن الارتفاع الحاصل مبرر ويتناسب مع الخسارة التي يتعرض لها أصحاب المطاعم، الذين يبحثون عن مواءمة ارتفاع تكاليف الإنتاج مع تقديم خدمات جيدة بأسعار مناسبة”.
بالتأكيد فقد أصبحت المطاعم بشكل عام، وخلال إفطار شهر رمضان بشكلٍ خاص من نصيب فئة محددة داخل المجتمع السوري، إذ يصعب على معظم السوريين تحمل النفقات الخيالية التي تفرضها على الزبائن، لذلك يفضّل السوريون الإفطار داخل منازلهم، بما تيّسر من أصناف الطعام التي تتناسب مع الإمكانيات المادية لكل عائلة.
هلا النوري طالبة في كلية الهندسة الزراعية بجامعة دمشق تقول : “من النادر جداً في الوقت الحالي الذهاب إلى المطعم سواء في أيام شهر رمضان أو خارجه، لأن الظروف الاقتصادية صعبة للغاية والغلاء لا يمكن تحمله، لذلك فإن كل شيء أصبح مرتبط بالأولويات، فأنا مثلاً أفضل شراء قطعة ملابس على الذهاب إلى مطعم، وهذه المفاضلة ضرورية للغاية مقارنة بالإمكانات المادية الموجودة لدي، واليوم من يريد العيش بالحدود الدنيا من مقومات الحياة عليه البحث عن عملين في آنٍ واحد للحصول على مردود مالي مقبول نسبيّاً”.
اليوم، وبعد أن خفت صوت المعارك في المناطق الساخنة، ينشغل بال السوريين بالأوضاع المعيشية أكثر من أيّ شيء آخر، إذ باتت القدرة الشرائية لمعظم السوريين شبه معدومة، وإن كانت الأسواق حالياً تشهد اكتظاظاً شبيهاً بالماضي، إلا أن حركة البيع والشراء في حدودها الدنيا، ولسان حال الناس يقول: ماذا سنشتري اليوم؟ ما هو نوع العصير الأقل تكلفة؟ هل سنتخلى عن أنواع جديدة من الطعام؟ كيف يمكن أن نحصل على اللحم في ظل الارتفاع الجنوني للأسعار؟ كيف سنستطيع إكمال شهر رمضان وسط هذه الظروف؟ وإن الإجابة الوحيدة عن جميع الأسئلة السابقة هي “الاستسلام”.