خطأ حسابات أميركا بشأن القضايا العالمية هزائمها المتكررة شرق آسيا.

خطوط النظام العالمي العريضة: إلام استند السيد الخامنئي في تحديدها؟

القوتان الرئيسيتان اللتان تحددان المستقبل الاقتصادي لمنطقة ما هما نمو إنتاجها وتركيبتها السكانية.

2022-11-07

حدد قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي الخامنئي، خلال خطابه الاخير، ملامحاً ثلاثة لتَغيّر النظام العالمي الجديد وذلك وفقاً لمعطياتٍ ووقائع، وهذه الملامح هي: انزواء الولايات المتحدة الأميركية، انتقال القوة إلى آسيا، وانتشار فكر المقاومة وتوسّع جبهتها

تُشير النظرية الكلاسيكية في العلاقات الدولية إلى أنّه وخلال فترات “انتقال القوّة” بين الأمم، تحصل مخاطر عديدة تدفع باتجاه أزمات ونزاعات خطيرة في النظام الدولي، ربما نعيش إرهاصاتها في وقتنا الحاضر من خلال العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا.

حدّد السيد الخامنئي من خلال ذلك، المعايير التي يمكن الانطلاق بها للحديث عن تشكيل نظام دولي جديد. وفي ذلك، يمكن دراسة عدّة مؤشرات تعيشها الساحتين الدولية والإقليمية لتحليل خلفية الخطوط العريضة التي تحدث عنها قائد الثورة الاسلامية.

انزواء الولايات المتحدة الأميركية

تراجع دور الولايات المتحدة الأميركية كلاعبٍ رئيس في الساحة الدولية وانزوائها من أهم الخطوط العريضة في النظام الدولي الجديد.

ويحدد السيد الخامنئي دلالات عدّة على انزواء الولايات المتحدة، ومنها: مشكلات الاقتصاد الأميركي، خطأ حسابات أميركا بشأن القضايا العالمية كأفغانستان والعراق، هزائمها المتكررة شرق آسيا.

مشكلات الاقتصاد الأميركي

عن المشكلات الاقتصادية في الولايات المتحدة، فإنّ الجديد في ضخامة الدين القومي الأميركي هو أنّ هناك تسارعاً ملحوظاً في حجم الدين في الأعوام القليلة الماضية، الذي تجاوز  31 تريليون دولار، وبدأ يُشكل تحديات حقيقية للحكومة الأميركية.

في العام 1990 كان الدين القومي للحكومة الأميركية نحو تريليوني دولار، وكان وقتها يشكل نحو 50% من الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنه استمر في الارتفاع وبلغ 30 تريليون دولار مطلع 2022، وارتفع فقط منذ بداية العام الحالي بنحو تريليون دولار!

التقديرات تشير إلى أن حجم الديون القومية العالمية بلغ نحو 300 تريليون دولار بنهاية 2021، ما يعني أن ديون أميركا وحدها تتجاوز 10% من الديون القومية العالمية، وهنا تتبين ضخامة هذا الأمر وتأثيره.

لكن مُشكلة الدين الأميركي حالياً مصدرها ليس فقط في ضخامة المبلغ، الذي يقدر بما يعادل 93 ألف دولار عن كل مواطن في أميركا، بل إن المشكلة هي في صافي الفوائد على هذه الديون والتي تصل الآن إلى نحو 450 مليار دولار سنوياً.

ومن المشاكل أيضاً التضخم، أي ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك الأساسي في الولايات المتحدة الأميركية لمعدلات فاقت التوقعات ووصل إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً، في  أيلول/سبتمبر الماضي، الأمر الذي جعل المجلس الاحتياطي الفيدرالي يرفع أسعار الفائدة بشكلٍ صارم للحد من التضخم المستمر.

خطأ الحسابات الأميركية والتراجع في شرق آسيا

على الصعيد الاستراتيجي، جاء الانسحاب الأميركي من أفغانستان الذي وصف بالعشوائي في 15 آب/أغسطس 2021، بعد 20 عاماً على الاحتلال وهذا يدلّ على إخفاق سياستها في أطول حروبها.

هذا الانعكاس أظهر انقساماتٍ داخليةً عميقةً، من خلال تبادل الاتهامات وتحميل المسؤوليات بين أعضاء الحزبين الجمهوري والديمقراطي من جهة، وبين العسكريين والسياسيين داخل إدارة الرئيس جو بايدن من جهة أخرى، بالإضافة إلى تناقضات أخرى ظهرت بين أعضاء حلف شمال الأطلسي في الفترة التي سبقت الانسحاب، والتي عبّروا فيها عن خشيتهم من الانسحاب السريع من أفغانستان وتخوّفهم من نتائجه.

وفي المقابل، برز التعاون الأفغاني الإيراني في مواجهة الواقع الإنساني الكارثي، فبعد وصول حركة “طالبان” إلى السلطة أوقفت المؤسسات المالية الدولية مساعداتها للبلاد، وجمّدت واشنطن نحو 9,5 مليارات دولار من أصول البنك المركزي الأفغاني. وذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال”، في هذا الخصوص، أنّ البلدين اللذين يتشاركان في حدود طولها 600 ميل تقريباً، يسعيان “لملء الفراغ الذي خلّفه انسحاب القوات الأميركية، على الرغم من الخلافات المتعددة بينهما”.

وبينما حاولت واشنطن بعد الانسحاب خلق بؤرة توتر جديدة تتجمع فيها الحركات الإرهابية لإرباك الصين والهند وروسيا، فإن الدول الـ3 استطاعت الالتفاف على المخطط الأميركي بمزيدٍ من بناء الجسور الأمنية والاقتصادية مع دول آسيا الوسطى وبعض دول شرق آسيا، التي فشلت الإدارة الأميركي في احتوائها ضد خصومها.

انتقال القوة إلى آسيا

الخط الثاني العريض في تَغيّر النظام العالمي الجديد، وفق رؤية السيد الخامنئي، هو انتقال القوة إلى آسيا.

ووفقاً لأهم عوامل دراسة الاقتصاد السياسي، وهي النمو الاقتصادي، بالإضافة إلى القدرات البشرية العاملة وحجمها، يشهد العالم نقلةً في القوة الاقتصادية من الغرب الرأسمالي القائم على الهيمنة، إلى الشرق الذي بات يعتمد وعلى رأسه الصين وروسيا وإيران على نماذج اقتصادية تراعي بالدرجة الأولى موقعها على الساحة الدولية، ومتطلبات شعوبها ومصالحها الحيوية، من دون سياسية استعمارية توسعية كما نهض الغرب في القرنين الماضيين.

ومع تغيّر التوجهات الاقتصادية والمسارات التجارية، من المتوقع أن تحصل تغييرات مواكبة لذلك في الأفكار والسياسات والدبلوماسية، وسيكون للآسيويين كما يقول الباحث السنغافوري كيشور ماحبوباني “دورٌ في مشاركة الغرب في صياغة المؤسسات الاقتصادية العالمية من صندوق النقد الدولي إلى البنك الدولي”.

ويرى مركز “Rising Powers in Global Governance” للأبحاث، أنّ هناك علامات لصعود التعددية القطبية في العالم من أبرزها: صعود القوة غير الغربية التي ستتولى مكانة راقية في الاقتصاد العالمي خلال العقود المقبلة، وينطبق الشيء نفسه على القوى الإقليمية الصاعدة الأخرى من الجنوب لأنها تعزز انتشارها العالمي.

وتتطرق الدراسة إلى فقدان سياسة “التأثير” الغربي، وتعتبرها من علامات فقدان سياسة أحادية القطب، إذ تشير إلى الطريقة التي تستجيب بها الولايات المتحدة لوضعها الجديد، بعد أن فقدت نسبياً التأثير في المجتمع الدولي؛ إرث الرئيس الأسبق باراك أوباما فيما يتعلق بإيران أو كوبا، مثلاً.

وقبل يومين، نشر موقع “ذا هيل” مقالاً مشتركاً لخبيرين اقتصاديين أميركيين جاء فيه أنّ مكانة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية مهيمنة على العالم تشهد انحساراً مستمراً، لكن قلة من الأميركيين -بمن في ذلك السياسيون- يدركون ذلك.

وأبرز المقال أنّ كل المؤشرات تشير إلى أنّ الصين وبعدها الهند ستكونان أعظم قوتين اقتصاديتين في العالم بحلول عام 2100، متفوقتين بذلك على الولايات المتحدة وذلك عند تصنيفها حسب الناتج المحلي الإجمالي الذي لا يتجاوز 12% فقط من الناتج العالمي مقارنة بـ27% للصين و16% للهند.

وأوضح المقال أنّ القوتين الرئيسيتين اللتين تحددان المستقبل الاقتصادي لمنطقة ما هما نمو إنتاجها وتركيبتها السكانية، واستناداً إلى البيانات التاريخية فإن التوقعات تشير إلى أن إنتاجية اليد العاملة في الصين والهند على التوالي تبلغ نسبة 30% و13%، متفوقة على مستوى إنتاج الولايات المتحدة بحلول عام 2050.

وطيلة السنوات الماضية سيطرت الولايات المتحدة على المنظمات والمؤسسات الدولية، كمجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، ولكن مع تراجع الدور الأميركي تبرز منظمات دولية ناشئة هدفها تعزيز الحضور في الساحة الدولية.

ويسلّط مركز Carnegie Endowment for International Peace الأميركي، الضوء على المنظمات التي توفّر دعماً واتحاداً بين الدول التي تقف قبالة التعددية القطبية وتورد روسيا التي أسست ورعت منظمات عدّة، مثل: الاتحاد الاقتصادي الأوراسي (EAEU)، ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO)، وبدرجة أقل مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا).

ويُورد المركز الأميركي أسباباً تجعل من هذه المنظمات قوّة صاعدة منها سعيها إلى المنافسة وتعزيز مكانتها الدولية، وإحباط المساعي الغربية لعزل روسيا وإيران وغيرها من الدول عبر العقوبات.

انتشار فكر المقاومة وتوسّع جبهتها

الخط الثالث العريض في تَغيّر النظام العالمي الجديد وفق رؤية السيد الخامنئي، هو انتشار فكر المقاومة وتوسّع جبهتها.

بعد تعسّر ولادة “الفوضى الخلاقة” التي كانت واشنطن و”إسرائيل” تسعيان لإحداثها في المنطقة بالقوة العسكرية المباشرة، لجأ الغرب إلى تضييق الخناق على إيران وسوريا وحزب الله ومعهم اليمن والعراق والمقاومة الفلسطينية بطبيعة الحال. وعبّرت هذه المرحلة عن توجّه أميركيّ غربيّ لاستهداف محور المقاومة من الداخل، من خلال استهداف كينوناته الجغرافية وتحريض بيئته الاجتماعية وتجفيف منابعه المادية، بالتزامن مع تقوية خصومه من معارضين أو أحزاب منافسة لا تخفي تبعيتها وولاءها للمحور الآخر.

ورغم كل المحاولات الأميركية والغربية لضرب محور المقاومة، استطاعت طهران الداعمة لهذا المحور ورغم كل العقوبات الغربية عليها الاستمرار في سياسته المناهضة للهيمنة الأميركية، وهذا ما أثّر بشكلٍ إيجابي على محور المقاومة ككل. ويمكن لحاظ ذلك في توسّع الجبهات التي باتت تشكل خشية لـ”إسرائيل”، لا وبل تهديداً وجودياً لها.

لواء في الاحتياط الإسرائيلي، عبّر عن ذلك مؤخراً بقوله إنّ “إسرائيل” فقدت قوتها العسكرية خلال السنوات الـ20 الماضية، وهي المدة الزمنية التي شهد فيه فكر المقاومة توسعاً في جبهاته.

وأواخر العام 2020، أنهى معهد “أبحاث الأمن القومي” الإسرائيلي عملاً بحثياً، درس فيه التحدي المرتقب لـ”إسرائيل” في حرب الشمال القادمة.

وتحدث الإعلام الإسرائيلي عن البحث مشيراً إلى أنّ مدير المركز اللواء في الاحتياط أودي ديكل، حذّر من أنه في الحرب المقبلة “ستُهاجم الجبهة الداخلية بآلاف الصواريخ والمقذوفات الصاروخية، من بينها عشرات الصواريخ الدقيقة، وطائرات غير مأهولة هجومية ومن عدة ساحات بالتوازي: لبنان، سوريا، غرب العراق، وربما أيضاً غزة”.

هذه المروحة من الجبهات، التي تحيط بماركز ثقل الهيمنة الأميركية في المنطقة، والتي تنتشر في الخليج (الفارسي) وسواحل البحر المتوسط، والبحر الأحمر والعمق العربي، تعبّر وإن كانت في جوهرها تستهدف “إسرائيل”، عن انتشار للفكر المقاوم كنتيجة أولى، وعن مرحلةٍ جديدة بات فيها الوجود الأميركي مهدداً بالنزواء والأفول. والسيد الخامنئي كان أعلن في وقتٍ سابق عن “بداية عصر ما بعد أميركا” في المنطقة، مستنداً إلى تلك التطورات.