الشَّهرُ ميدان لتنافسِ الصالحين بأعمالهم

ما بعد رمضان.. دروس مستفادة من مدرسة الصيام

شهر رمضان بحق ربيع وواحة خضراء، وحديقة غنَّاء، يتمتَّع فيها الصائم بملذات الحس، وذخيرة للنفوس المؤمنة، تتزوَّد فيها بوقود الطاعة، وتتغذى بزاد التقوى زاد يقويها ويبلغها بقيةَ العام، حتى يعودَ إليها 

2023-04-18

لعل السؤال المهم الذي يطرح نفسه في هذه الأيام وما ستتلوها من أيام ما بعد شهر رمضان الکریم.. ماذا استفدنا من الشهر الفضيل؟ ماذا استفدنا من مدرسة الصيام؟ ما الدروس والعبر التي يمكننا أن نخرج بها من تلك الأيام الفاضلة التي قضيناها في العبادة وتلذذنا فيها بالطاعة؟ فلنجعل من ساعات الليل نصيباً من صلاتنا وتقربنا إلى الله كما كان حالنا في ليالي شهر رمضان.

فأن الدروس كثيرة، لكننا سنعرج إلى جزء منها؛ لكي يكون شهر رمضان لنا محطة تغيير نحو الأفضل في حياتنا، ولكي نستفيد من هذا الشهر الكريم فيلقي بظلاله على كافة شهور العام، فنكون بذلك حققنا ما يصبو إليه الصيام من فوائد ومنافع.

ما بعد رمضان.. دروس مستفادة

درس التقوى: أول الفوائد من دروس شهر رمضان والصيام فهو درس التقوى، والتقوى وصية الله للأولين والآخرين من عباده، هي تقواه، قال تعالى: “وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلِّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِياً حَمِيداً”.

ومعنى التقوى، تقوى العبد لربه: أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تقيه من ذلك بفعل طاعته واجتناب معاصيه، إنه مفهوم عظيم وكبير؛ إذ الصائم في شهر رمضان كان مستشعراً لهذا المعنى أثناء صيامه، فمبدأ التقوى هو السرُّ الحقيقي في الصوم، فالله عز وجل يقول في محكم التنزيل: “كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ”.

ومن ثم ينبغي لنا بل يجب أن نستشعر مفهوم التقوى في جميع مناحي الحياة، في شهر رمضان الكريم وبعد هذا الشهر الفضيل؛ إذ التقوى ليست محصورة في أيام أو في عبادات أو معاملات معينة، بل التقوى شاملة لحياة المسلم كلها، إن معنى التقوى.. أي اتقِ عذابه بطاعته، اتقِ سخطه برضوانه، اتقِ الكفر بالإيمان، اتقِ الشرك بالتوحيد، اتقِ إتلاف المال بحسن كسبه، اتقِ سَخَطَ الله بحسن إنفاق المال، اتقِ الله في حواسك بأن تجعلها في طاعة الله تعالى، اتق الله في عينيك بأن تَغُضها عن محارم الله، اتق الله في أذنيك بأن لا تسمع بها إلا الحق، اتق الله في لسانك بأن لا تقول إلا الصدق والحق، وأن تنزهه عن ما حرَّم الله من الغيبة والنميمة والكذب وغيرها.

المسلم الذي يتقي ربه، تكون تقوى الله ومراقبته، حاضرة معه في كل مكان، في بيته، وفي عمله، مع نفسه، ومع زوجته، ومع أولاده، ومع زملائه، حينما يكون مع الناس، وعندما يخلو بنفسه لا يراه إلا رب الناس.

الإرادة: أما ثاني الدروس، هو درس الإرادة؛ فالمسلم في شهر رمضان يخالف عاداته ويتحرر من أسرها، ويترك مألوفاته التي هي مما أحل الله لعباده، فتراه ممتنعاً عن الطعام والشراب والشهوة في نهار شهر رمضان امتثالاً لأوامر الله، وهكذا يصبح الصوم عند المسلم مجالاً رحباً لتقوية الإرادة الجازمة؛ فيستعلي على ضرورات الجسد، ويتحمل ضغطها وثقلها إيثاراً لما عند الله -تعالى- من الأجر والثواب.

إن هذا الدرس العظيم يقودنا بأن نعرف حقيقة في النفس البشرية أنها قادرة -بعد توفيق الله سبحانه- بإرادتها وعزيمتها على الابتعاد عن الحرام.

درس المداومة على الطاعات

ثم إن من أعظم الدروس المستفادة من هذا الشهر العظيم درس المداومة على الطاعة؛ فشهر رمضان الكريم موسم تنوع الطاعات والقربات، إذ المسلم في هذه الأيام الفاضلة يتقلب في أنواع من الطاعات والعبادات، وهو مع ذلك كله حريص عليها، فإذا كان رب شهر رمضان هو رب جميع الشهور كما نعلم، فحريٌّ بالمسلم أن يخرج من مدرسة شهر رمضان بإقبال على الصلاة والخشوع فيها وصلاتها مع جماعة المسلمين، حريٌّ بالمسلم أن يجعل من القرآن الكريم منهج حياة له بتلاوته وتدبره، ما أجمل أن يداوم المسلم على قراءة القرآن الكريم بعد شهر رمضان! وأن يجعل له ورداً يومياً يقرؤه، فيعيش مع القرآن الكريم، ويكون له بكل حرف حسنة، والحسنة بعشر أمثالها.

إن من أجلّ حكم الصيام غرس القيم والفضائل والخلق الحسن في نفوس الصائمين، والصوم ليس حرماناً مؤقتاً من الطعام والشراب، بل هو خطوة لحرمان النفس من الشهوات المحظورة والنزوات المنكرة، قال رسول الله(ص): (من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه).

إن الأخلاق الفاضلة التي يدعو لها الإسلام تكفل للمتصف بها أعلى المنازل في الجنة، وأفضل المنازل في قلوب الناس.

تفعيل الشحنة الإيمانية والتزود بها

وشهر رمضان سوق أقيم ثم انفض ربح فيه من ربح وخسر فيه من خسر، وعلى العاقل أن يجعل من عبادات شهر رمضان ونفحاته زاداً يتزود منه لما بعد رمضان فيعيش الجو الرمضاني طوال العام فيعيش بحق معنى، (أن تكون السنة كلها شهر رمضان)، وعلى ذلك فإن حديثنا هنا منصب على كيفية تفعيل الشحنة الإيمانية والتزود بها فيما بقي من العمر، ولنعلم في البداية أن الإسلام ليس دين المناسبات والطقوس والمراسم الوقتية فينتهي بانتهائها وينسى بنسيانها، وإذا كان الله تعالى فتح لنا باب الطاعة المضاعفة الأجر في شهر رمضان فلا يعني ذلك أن ندع ما عداها وأن نتوقف عن العطاء بعد انتهائها.

ان كان شهر رمضان المبارك قد انتهى، فإن عمل المسلم لا ينتهي إلا بمفارقة روحه بدنه، قال عز وجل لنبيه(ص): {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}.

فالمعبود واحد، ورب شهر رمضان هو ربّ بقية الشهور والأيام؛ ولذلك فشهر رمضان المبارك بداية.. فهو مدرسة التغيير، نستفيد منه لما بعده.. نُغير فيه من أعمالنا وسلوكنا وعاداتنا.

فان شهر رمضان بحق ربيع وواحة خضراء، وحديقة غنَّاء، يتمتَّع فيها الصائم بملذَّات الحس، ومسرَّاالنفس،

وذخيرة للنفوس المؤمنة، تتزوَّد فيها بوقود الطاعة، وتتغذى بزاد التقوى زاد يقويها ويبلغها بقيةَ العام، حتى يعودَ إليها.

يسارع معظمنا بعد شهر رمضان إلى إعادة ترتيب أوراقه الدنيوية التي قد تكون تعرضت لبعض الخلل؛ بسبب ظروف الصيام، وتدريجيّاً تنسحب الطاقات الروحانية من قلوبنا ومن عقولنا، وتخفت أنوار شهر رمضان وتتلاشى بداخلنا؛ لنكون بذلك مثل من قام بشحذ معظم طاقاته لتكوين ثروة وبعد نجاحه في ذلك،إذا به لا يسعى لا للاستفادة منها ولا لزيادتها، ويسمح بتسربها من بين يديه وهو غافل عنها.

مراقبة النفس

لا نتوقع بالطبع أن نتحول إلى ملائكة تسعى على الأرض بعد هذا الشهر الفضيل، فسنظل بشراً نخطئ ونصيب، ونضع نصب أعيننا الحديث الشريف: “كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون”، ونبتهل إلى العزيز الحكيم. وحتى لا تتراكم الأخطاء علينا فتأكل الرصيد الرائع الذي حصلنا عليه من شهر رمضان، لا بد لنا من وقفة أسبوعية تكون بمثابة استراحة محارب نجلس فيها مع أنفسنا، بعيداً عن أية مؤثرات دنيوية، ونختلي فيها مع ذواتنا بكل الاحترام لطبيعتنا البشرية، وأيضاً مع عظيم الرغبة في السمو بها، وأن نكون جميعاً من الذين إذا أساؤوا استغفروا وإذا أحسنوا استبشروا.

ننمي في أنفسنا طاقات مجاهدة النفس، ونتذكر أننا كما تحملنا مشقة الصيام؛ لأننا ندرك تماماً عظمة الثواب والأجر الديني فإننا نستطيع مجاهدة النفس والانتصار على منافذ كل من الشيطان اللعين والنفس الأمارة بالسوء؛ حتى نفوز بخيري الدين والدنيا معاً..

وقد يتبادر إلى الذهن أننا نقصد بهذه المراجعة الأسبوعية زيادة الحصص من العبادات والأذكار وما شابه ذلك، والحقيقة أن الأمر لا يجب أن يقتصر على أولئك فقط، وإنما يتسع ليشمل كل ما فيه خير دنيوي لنا ولمن حولنا ولأمتنا الإسلامية ككل..

ونختم شهرَ الصيامِ والقيامِ والدعاء، والسؤالُ الذي يستأهلُ التوقفَ والتأمُّل: هلْ قُبِلَ مِنَّا ذلك؟

إنَّ التاجرَ إذا دخلَ موسِماً أو صفقةً تجاريةً، فإنَّه بعدَ انتهاء الموسمِ والصفقةِ يُصفِّي حساباته ومعاملاتهِ، ويقلِّبُ كَفيهِ وينظرُ مبلغَ ربحِهِ وخسارتِهِ،ينظرُ هلْ رَبِحَ أمْ خَسِر؟ هلْ غَنِمَ أم غَرِم؟ هذا الاهتمامُ البالغُ نراه في تجارةِ الدُّنيا وعَرَضِهَا الزائلِ.

لقد كان الشَّهرُ ميداناً لتنافُسِ الصالحين بأعمالهم، ومجالاً لتسابُقِ المحسنين بإحسانهم، وعاملاً لتزكية النفوس وتهذيبها وتربيتها، لكن بعض الناس ما أن خرجوا من شهر رمضان إلى شوَّال حتى خرجوا من الواحة إلى الصحراء، ومن الهداية إلى التِّيه، ومِن السعادة إلى الشقاوة؛ لذا كان الناس بعدَ شهر رمضان على أقسام، أبرزها صِنفان، هما جِدُّ مختلفَيْن:

صِنف تراه في شهر رمضان مجتهداً في الطاعة، فلا تقع عيناك عليه إلاَّ ساجداً أو قائماً، أو تالياً للقرآن أو باكياً، وحتى إنَّك لتشفق عليه من شِدَّة اجتهاده وعبادته ونشاطه،وما أن ينقضيَ الشهرُ حتى يعودَ إلى التفريط والمعاصي، فبعدَ أن عاش شهراً كاملاً مع الإيمان والقرآن وسائر القُربات، يعود إلى الوراء مُنتكساً أو مرتدّاً -والعياذ بالله- وهؤلاء هم عبادُ المواسم، لا يَعرفون الله إلاَّ عند المواسم، أو عندَ نزول النِّقم بساحتهم، فإذا ذهبتِ المواسم أو زالت النقم، وحُلَّتِ الضوائق، ذهبتِ الطاعة مُولِّيةً، ألاَ فبِئسَ قومٌ هذا ديدنهم”.