إنّ الأزياء الشعبيّة الفلسطينيّة الّتي لا نزال نشاهدها بأشكالها وألوانها المختلفة والجميلة داخل الوطن المحتلّ، وفي مخيّمات الفلسطينيّين وأماكن تجمّعهم عبر الأرض العربيّة والعالم، ما هي إلّا بقايا أزياء قديمة توارثها الناس جيلًا عن جيل، وطائفة عن طائفة. وما التباين الّذي نلمحه على سطح هذه الأزياء إلّا انعكاس لمؤثّرات تاريخيّة، دينيّة، اجتماعيّة، اقتصاديّة ومناخيّة.
والزيّ الشعبيّ الفلسطينيّ كان معروفًا على أرض فلسطين منذ أقدم الأزمنة، وكان التطريز في الماضي السحيق يخدم أغراض الطبقات الحاكمة والكهنة والنبلاء، والّتي كانت ملابسهم تطرّز بخيوط الذهب والفضّة، وكان يؤدّي هذه المهمّة لصالح تلك الفئات حرفيّون متخصّصون، ويحصلون لقاء ذلك على مبالغ طائلة. وبالتأكيد كانت مهنة التطريز بعيدة عن تناول الفئات الشعبيّة، والّتي كان فوق طاقتها الحصول على خيوط الذهب والفضّة. وبدلًا من هذه الخيوط كانت تلك الفئات الفقيرة تستعمل الإبرة والخيوط القطنيّة والحريريّة لتطريز ثيابها، وترسم موتيفات تعبّر عن خرافاتها ومعتقداتها الشعبيّة وملامح بيئتها.
أثر الوظيفة الاجتماعيّة في الزيّ الشعبيّ
إنّ أوّل المؤثّرات الّتي ساعدت في تشكل ملامح الزيّ الشعبيّ الفلسطينيّ هي الوظيفة الاجتماعيّة الّتي تؤدّيها الأزياء؛ فهذه الأزياء عبارة عن ’لغة صامتة‘ تعبّر عن جنس لابسها وفئته الاجتماعيّة وانتمائه الطبقيّ، ووجهة نظره للحياة، كما أنّها تفسّر لنا المشاعر الإنسانيّة الداخليّة الّتي تمور في نفسه والّتي يحاول أن يعبّر عنها. وفضلًا عن ذلك، فإنّ طبيعة الزيّ وأسلوب زخرفته أو مجرّد مظهره البسيط، كلّ ذلك يعبّر عن الظروف المعاشة والموقع الّذي يحتلّه الفرد في المجتمع، أو هو تعبير عن وجهة نظر المجتمع في ذلك الشخص.
ولا شكّ أنّ هذه العبارات النظريّة بحاجة للكثير من التفصيل، ويجوز لنا الافتراض بأنّ كلًّا من الرجل والمرأة كانا يرتديان نفس الثوب البرميليّ الشكل، ثمّ أخذ الرجل يحرف شكل ثوبه حتّى وصل إلى شكل ’الديماية‘ أو ’القنباز‘ الفلسطينيّ، والّذي هو في حقيقته ثوب مشقوق ومشدود بحزام، واستمرّ الرجل يميّز نفسه والمرأة، فاتّخذ العقال ووضعه على ’الكوفيّة‘، ومع الزمن أصبح العقال رمزًا للرجولة.
وقد رأينا كيف أنّ القاتل كان يدخل بيت المقتول يوم الصلح بلا عقال رمزًا للاستكانة والخضوع والتجرّد من صفات الرجولة. وكان الرجل الّذي لم يثأر لمقتل ابن عشيرته يخلع عقاله رمزًا لفكرة مؤدّاها أنّه لم يصل بعد لمرحلة الرجولة الكاملة الّتي لا تكتمل إلّا بأخذ الثأر.
زيّ المرأة ودورها الاجتماعيّ
بصورة عامّة، يمكن القول إنّ مؤثّرات نفسيّة وفسيولوجيّة، فضلًا عن مؤثّرات اجتماعيّة عديدة، جعلت من زيّ المرأة زيًّا غاية في الجمال والزخرفة. في حين اقتصر زيّ الرجل على مظهر عاديّ بسيط. ويمكن أن نفسّر ذلك في وجهة نظر المجتمع نحو المرأة، وفي المركز الّذي اختاره ذلك المجتمع لجماهير النساء؛ ففي حين كان ينصرف الصبيّ ابتداءًا من العاشرة من العمر إلى مساعدة والده الفلّاح في الحفل، كانت البنت تلزم البيت وتتفرّغ لخدمته، وتستعدّ للزواج المبكّر الّذي كان شائعًا في الحياة الشعبيّة الفلسطينيّة قبل الخمسينات من هذا القرن. وكانت البنت تعاني من فراغ طويل، ولذلك كان عليها أن تبدأ في تعلّم الخياطة والتطريز، وتأخذ في إعداد ثوب العرس الّذي كان يستغرق منها سنوات طويلة، وفضلًا عن ذلك، تبدأ في إعداد قطع الثياب المطرّزة وأغطية الفراش والأواني وصنع المناديل المزخرفة بالحرير والخرز، ولم يكن الصبي ليفعل ذلك اعتمادًا على أنّه سيصبح الرجل المنتج في البيت.
وهناك دافع آخر لذلك؛ فالرجل هو الّذي يختار عروسه، والبنت تجلس في البيت بانتظار العريس صامتة، ولا يجوز أن تخطب عريسها أو تعلن حبّها. ولذلك نشأت تلك المنافسة الصامتة بين النساء على الرجل-العريس المستقبليّ. وكان لا بدّ للبنت من أن تلفت انتباه الرجال واجتذابهم من خلال قدرتها على زخرفة ثيابها وجسدها، والحصول على سمعة طيّبة، وتأتي هذه السمعة، بعد الأصل والجمال الطبيعيّ، من خلال ’العدله‘، أي المهارة في صنع الثياب وخدمة البيت.
وعبر سنوات الانتظار هذه كان على البنت أن تنجز إنتاج مجموعة من الثياب والمناديل والمنسوجات الّتي تعتبر جزءًا من جهاز العروس – وهكذا أصبحت الأزياء الشعبيّة في غالبها فنًّا نسويًّا؛ فبينما نجد الرجل يكتفي بالديماية والحطّة والعقال، نجد أنّ ملابس المرأة تزداد كثرة وتنوّعًا؛ فهناك الثوب المطرّز، والسروال المطرّز، والتقصيرة والعصبة والأكمام الزاهية الألوان، وغطاء الرأس المشغول بالحرير والخرز والشطوة الّتي هي أشبه بطربوش مزخرف بالليرات الذهبيّة، ومن أجل ذلك كانت تلك الصفة والشكّة على جبين المرأة، والّتي تضمّ حشدًا هائلًا من ليرات الذهب العسملّي (العثمانيّ)، وقطع العملة الفضّيّة (الوزري والخيري)، وكانت تلك الوقاة، وهي الطاقيّة الصغيرة تحت غطاء الرأس، والّتي تثبّت المرأة عليها الريالات الفضّيّة – أبو عمود وأبو ريشة، وكان ذلك الكردان ’قلادة‘ الذهبيّ الّذي يتدلّى على الصدر، وإلى جواره عقد القرنفل وعقد الكارب والبغمة الّتي تحمل الحجاب، وقلائد الفضّة الّتي تتدلّى منها شتّى العملات الفضّيّة. ويمكننا تفسير كلّ هذا الحمل الثقيل من الحليّ في اتّجاهين.
الاتّجاه الأوّل مادّيّ؛ فالمرأة تظلّ في خوف دائم من أن يتزوّج زوجها امرأة أخرى ويهجرها، أو أن يموت زوجها فتصبح أرملة فقيرة، ولذلك نراها تكتنز كلّ ذلك الذهب والفضّة خوفًا من عثرات الزمان. والاتّجاه الثاني جماليّ بحت، يهدف إلى اجتذاب الرجل والحصول على رضاه وحبّه، وبالتالي حمايته لها وإنفاقه عليها.
ويكمن في دور المرأة هذا، السرّ في أنّ الفنون اليدويّة، وعلى الأخصّ ما كان في مجال ثياب النساء وزخرفة الجسد وصناعة الحليّ، قد تفوّقت على أيّ فنون أخرى في الحياة الشعبيّة. لقد تراجعت قدرة المرأة في المجالات الأخرى أمام إصراراها على إتقان صناعة الثياب وتطريزها والتفنّن في الحصول على الحليّ. وكانت المرأة القرويّة تكدح في الحقل وتقوم بتسويق الفواكه والخضر ومنتجات الحيوان، من أجل اكتناز المال على شكل حليّ وأدوات مطرّزة؛ ففي هذه الموادّ قيمة اقتصاديّة كامنة يمكن تحويلها إلى نقد، وفيها سحر كامن يجتذب الرجل ويخلب لبّه.
الزوجة الثانية تتكلّم
ونجد في المأثورات القوليّة الفلسطينيّة، صورة لموقف تلك المرأة الّتي تجد نفسها زوجة ثانية أو زوجة مهجورة من خلال هذه الأغنية الّتي تبثّ فيها امرأة حزينة شكواها من الرجل الّذي انصرف إلى زوجته الجديدة، وترك تلك المرأة المسكينة للحزن والآهات، وأغمض عينيه عن كلّ تلك الأساليب الّتي تتبّعها في التزيين لتجتذبه:
“يا ميمتي يمّا
يا ما أصعب الظرة
مِنْ عاشَرْها ليلة
يصبر ع حكم الله
أهلي وجيراني
ما طاقوا نيراني
والكلب عزّاني
في ليلة الظرة
غَسَلْت لهُ راسي
وقلت له تفظّل
قالي القَرع برّه”.
التقليد والتطوّر التاريخيّ
لمّا كانت الأزياء علامة التجدّد وأمارة الحيويّة، ولمّا كانت الرغبة في التقليد عاملًا حاسمًا في التغيير، فقد كان لهذا الأثر عامل قويّ في استمراريّة تشكيل جديد أدّى إلى عمليّة تطوير مستمرّة للزيّ الشعبيّ الفلسطينيّ. لقد ترك الشابّ القرويّ الفلسطينيّ ابتداءًا من الأربعينات من هذا القرن العمّة أو الكفّيّة – وهي نوع من الطربوش الملفوف عليه قماش حريريّ أو غباني – ليكتفي بالحطّة والعقال. واستغنى عن الحزام الحريريّ الثقيل العريض، واكتفى بحزام من الجلد، أو “الجنزير المطعّم بالحرير”، أو حزام مشغول بالخرز.
وتحوّل المركوب الثقيل إلى حذاء عاديّ بسيط، ولا شكّ أنّ هذه التجديدات كانت مجرّد بدعة من الشباب، إلّا أنّها ما لبثت أن أصبحت تقليدًا متعارفًا عليه.
وبالإضافة لدور الشباب في التجديد، فهناك دور الأغنياء في القرية الّذين يبدأون بارتداء ’موضة‘ جديدة من الزيّ أو استعمال نوع جديد من القماش للإيحاء بغناهم وعلوّهم الاجتماعيّ، حتّى إذا ما صار ذلك الزيّ معروفًا لدى العامّة ومستعملًا على نطاق الوسط الشعبيّ، تركوه وبدأوا بزيّ جديد. وهذا ما يؤكّد النظريّة القائلة بأنّ الزيّ الشعبيّ الشائع اليوم، كان زيًّا برجوازيًّا بالأمس. ولا بدّ من التوضيح بأنّ الانتقال من زيّ قديم لزيّ جديد، يحتاج لمرحلة من النضال والمعارضة. وفي ذلك يقول الناس: “اللّي بغيّر لبسه بغيّر جنسه”. ولذلك يقاوم الناس في الوسط الشعبيّ ارتداء القبّعة والبنطلون القصير والقميص الشفّاف والثياب الّتي تبرز مفاتن المرأة، وذلك عائد لكرههم لنموذج الصهيونيّ القادم من أوروبّا وأمريكا، والّذي يرون فيه ليس مجرّد نموذج هجين، بل غاز مستوطن يهدّد وجودهم ويزاحمهم في لقمة عيشهم. وفي ذلك حفاظ غريزيّ على السمات الأصليّة للقرية، وهو تعبير داخليّ عن المنافسة بين الشيوخ والشباب؛ فالأوّلون يخشون على نسائهم وبناتهم من أن يغويهم أولئك الشباب الّذين يلفتون الأنظار بأزيائهم الحديثة وطريقة ارتدائها، وبشعرهم المتحرّر من أيّ غطاء للرأس.
لكنّ التقليد والتطوّر التاريخيّ كانا أقوى من مقاومة الجيل السابق. وهكذا، ومع قدوم مرحلة الاستعمار البريطانيّ على فلسطين، حصلت تطوّرات جذريّة على الزيّ الشعبيّ؛ ففي فترة ما قبل العشرينات، كانت هناك فروق بارزة بين منطقة وأخرى في فلسطين في أسلوب تطريز الثياب، وفي نوعها أيضًا، وكانت هناك مناطق معروفة بتميّزها في موتيفات التطريز، وعُرِفَتْ بقدرتها على تزعّم القرى المجاورة في مجال الموضة، ومن هذه الأماكن بيت دجن، رام الله، بيت لحم، بئر السبع. وعندما استعمر البريطانيّون فلسطين، أحضروا معهم تأثيرات التغييرات الصناعيّة في أوروبّا على شكل موادّ جديدة من القماش والخيوط وتكنيك جديد في التطريز. وهكذا دخلت تأثيرات جديدة، وعزّزتها التحسينات الّتي طرأت على المواصلات، ودخول السيّارة إلى البلاد ثمّ القطار. وساعد ذلك في الانتقال، وبالتالي التمازج بين الموتيفات في التطريز وأساليب قصّ القماش وتفصيل الثياب.
وعلى صعيد ملابس الرجل، أخذ العمّال الفلسطينيّون الّذين يعملون في معسكرات الجيش البريطانيّ، يقلّدون جنود الاستعمار بارتداء البلوز والجاكيت والقميص والبنطلون. وبعد ذلك، ازداد التمازج بين سكّان فلسطين عندما حصلت النكبة الفلسطينيّة في عام 1948، وهاجر مليون فلسطينيّ من وطنهم ليسكنوا أكواخًا متلاصقة في مخيّمات المنفى أو في الأحياء الشعبيّة من مدن الضفّة الغربيّة والأردنّ ولبنان. وقد ساعد ذلك على خلق تشويش واختلاط في موتيفات التطريز للقرية الواحدة، وصارت القرويّة الفلسطينيّة تختار الموتيفات الّتي تعجبها من أكثر من ثوب تقليديّ واحد، ليظهر ما يمكن تسميته بالزيّ الشعبيّ الفلسطينيّ الجديد في عصر المخيّم.
نمر سرحان