أنكرت شركة “لافارج” عملاقة صناعة الأسمنت الفرنسية، دعمها لتنظيم داعش الإرهابي عندما كانت الحرب على الإرهاب مندلعة في سورية والعراق، ورغم وجود أدلة على دعم الشركة الفرنسية الكبرى للتنظيم الإرهابي إلاّ أنها نفت هذا الأمر الى أن كشف تحقيق تركي بالدليل القاطع ضلوع الشركة بدعم التنظيم الارهابي.
فعقب أشهر من كشف تحقيق تركي لتمويل شركة “لافارج” تنظيم “داعش” الإرهابي في سوريا، أقرت الشركة الفرنسية بفعلتها بعد أن أنكرتها.
لكن المثير للعجب والغريب فيما يجري هو تجاهل الدولة الفرنسية لما قامت به “لافارج” رغم تصنيفها “داعش” على قوائم الإرهاب.
وكان تحقيق استقصائي تركي قد كشف لأول مرة قبل أشهر، تورط “لافارج” في تمويل “داعش” بسوريا.
وعقب إقرارها بالذنب لقيامها بمساعدة منظمات “إرهابية” من بينها تنظيم “داعش” بين عامي 2013 و2014، أعلنت شركة “لافارج” ومجموعة “هولسيم” السويسرية الأمّ، مؤخراً، أن لافارج وافقت على دفع غرامة مالية قدرها 778 مليون دولار لوزارة العدل الأميركية.
*الاعتراف بالذنب بتهمة التآمر
وصدر عن الشركتين بيان جاء فيه أن لافارج وشركتها الفرعية “لافارج للأسمنت سوريا” التي تم حلّها “وافقتا على الاعتراف بالذنب بتهمة التآمر في تقديم دعم مادي لمنظمات إرهابية أجنبية محددة في سوريا منذ أغسطس/آب 2013 حتى أكتوبر/تشرين الأول 2014.”
وتخضع شركة لافارج الفرنسية التي اندمجت مع مجموعة هولسيم السويسرية في 2015، لتحقيق قضائي منذ 2017، وتلاحقها اتهامات بدفع حوالي 13 مليون يورو لجماعات إرهابية ووسطاء من أجل الحفاظ على نشاط مصنعها في سوريا خلال فترة الحرب، كما أن الشركة متهمة في فرنسا بـ”التواطؤ في جرائم ضد الإنسانية” على خلفية أنشطتها في سوريا. وخلص تحقيق السلطات الفرنسية إلى أن المبالغ التي سددتها المجموعة لتنظيم داعش الارهابي وحده قد تتراوح بين 4.8 و10 ملايين يورو. وتطرح قضية لافارج والأطراف المتداخلة فيها عدة إشكاليات قانونية وحقوقية واقتصادية متشابكة ومعقدة.
*هل كانت السلطات الفرنسية على علم؟
من خلال وثائق وشهود عيان، كشف فيلم وثائقي تركي عن علاقات مشبوهة لجهاز الاستخبارات الفرنسية وشركة لافارج بتنظيم داعش الارهابي في سوريا.
وفي نفس هذا السياق، أشار رئيس منظمة “عدالة وحقوق بلا حدود” فرانسوا دو روش، وفقاً لما ذكره لقناة الجزيرة إلى أن المخابرات الفرنسية كانت على علم بعلاقة لافارج مع تنظيم داعش، وقد قدّمت هذه الشركة عام 2016 مواد ووقودا إلى التنظيم مقابل مواصلة أنشطتها في شمال سوريا. وأضاف – قائلا “الأب أو الأم اللذان يرسلان 100 دولار لابنهم الذي يموت جوعا في سوريا يعاقبان بالسجن عشرات السنوات، ولافارج تعطي عشرات الملايين لداعش دون أن تحاسب، وذلك مع علم الدولة الفرنسية ومخابراتها”. من جانبه، أوضح المحلل وأستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة السوربون الدكتور جمال بن كريد أن المخابرات الفرنسية ليست على علم فقط بهذه العلاقة المشبوهة، بل كانت تعمل جنبا إلى جنب مع شركة لافارج وتتعاون مع تنظيم داعش وبقية الجماعات الارهابية مثل “جبهة النصرة”، وهذا طبعا بمباركة وصمت السلطات الفرنسية لكي تحافظ على مصالحها التجارية والاقتصادية.
*لماذا صمتت الدولة الفرنسية؟
لاحظ رئيس منظمة “عدالة وحقوق بلا حدود” أن صمت فرنسا يتجاوز الصفقات التجارية والمصالح الاقتصادية إلى أسباب أخرى أعمق، منها الحفاظ على عمليات فرنسا العسكرية في سوريا، والحصول على المعلومات والأخبار من هذه المنطقة الإستراتيجية، إلى جانب الحفاظ على صورة فرنسا وموقعها في الشرق الأوسط ودول الخليج الفارسي، فضلا عن المنافسة الشديدة مع تركيا. بدوره أكد المحلل والخبير المالي والاقتصادي الدكتور كميل الساري أن شركة لافارج والسلطات الفرنسية سقطت في منطق الجشع والأرباح الاقتصادية، كما سقطت في الحسابات الإستراتيجية الخاطئة، لأنها ظنت أن تنظيم داعش الارهابي سيحكم لوقت طويل في تلك المنطقة، خاصة مع سيطرته على مساحات كبيرة ومناطق كثيرة من سوريا والعراق.
*لماذا تتعامل فرنسا بازدواجية مع مسألة حقوق الإنسان؟
أوضح المحامي ومدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة “إفدي” الدولية لحقوق الإنسان عبد المجيد المراري أن هذه الازدواجية في التعامل مع مسألة حقوق الإنسان ليست غريبة على المنطق الأوروبي والفرنسي على وجه الخصوص. وعبّر المراري عن استغرابه من موافقة فرنسا على تمويل الجماعات والتنظيمات الإرهابية، وهي -أي فرنسا- التي “تشدد في محاربة الإرهاب من خلال قوانينها الصارمة، وكانت عرضة أكثر من مرة لهجمات إرهابية قوية”، مضيفا “هذا تناقض كبير وازدواجية في الخطاب ولغز يصعب فهمه وتفسيره”.
شدد المراري على أن اعتراف لافارج بأنها مذنبة يجعل منها ومن السلطات الفرنسية شريكا لهذه المنظمات ولعملياتها الإرهابية حتى التي تمت في فرنسا، على اعتبار أن الأموال التي تلقاها تنظيم داعش الارهابي من الشركة الفرنسية وقع استعمالها في شراء الأسلحة والمواد المتفجرة التي استخدمت في التفجيرات الإرهابية في فرنسا وأوروبا.
وأكد أن المساهمة في تمويل جماعات إرهابية تعتبر في القانون الدولي جريمة، وشركة لافارج بحسب القانون مساهمة في كل ما ترتكبه هذه المنظمات الإرهابية، مبينا أن القانون الجنائي الفرنسي يعاقب بشدة حتى على مجرد الإشادة بمثل هذه المنظمات الإرهابية، ومسؤولية الشركة لا تنفي مسؤولية الدولة الفرنسية على خلفية علاقة لافارج بجهاز المخابرات الفرنسي، بحسب قوله.
*ما التداعيات القضائية الجنائية؟
أوضح المراري أن منظمة إفدي رفعت مع منظمات أخرى قضايا ضد شركة لافارج في المحاكم الفرنسية. ولأن الجريمة الإرهابية متكاملة الأركان -في رأيه- فهذا يفتح الباب لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم أمام القضاء الدولي والقضاء الفرنسي أيضا. وأضاف أن اعتراف الشركة سيعطي القضية بعدا جنائيا، وسيتم بمقتضاه استدعاء مسؤولين كبار من قبل الادعاء والقضاء الفرنسي في الفترة القادمة، على حد قوله.
وتابع المراري أن المنظمات الحقوقية ستذهب إلى مرحلة التقاضي الدولي من خلال محكمة الجنايات الدولية، والمحاسبة على الجرائم التي ارتكبت ضد الإنسانية.