المسألة الألمانية ومستقبل الاتحاد الأوروبي

بعد هزيمة ألمانيا خلال الحرب، كان مستقبلها من أهم المسائل التي تمّ النقاش بشأنها بين الحلفاء المنتصرين في الحرب. وقد تشاطر الغربيون والسوفيات الرغبة نفسها في منع عودة ألمانيا القوية، فتمّ تقسيمها

2023-05-01

منذ توحيد ألمانيا لأول مرة في التاريخ الحديث عام 1871، حدد مصيرها مستقبل أوروبا ككل. منذ ذلك الوقت، كانت الأسئلة بشأن كيفية المحافظة على السلام في أوروبا تتمحور حول سؤال واحد: “كيفية المحافظة على ألمانيا الموحدة مسالمة”. من هنا، انطلق جوهر “المسألة الألمانية”، وهي مسألة تكررت مراراً، وطرحت تحديات عالمية على مدى التاريخ.

المسألة الألمانية والحرب العالمية الأولى:

قبل المستشار “بسمارك” باءت كل محاولات توحيد ألمانيا بالفشل. كانت المناطق الناطقة بالألمانية تضم الآلاف من الدويلات والممالك والإمارات والمدن الحرّة، وهو ما شكّل عائقاً في وجه التطور، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً، وفشلاً للثورة التي اندلعت عام 1848. مع وصول أوتو فون بسمارك، وهو سياسي بروسي آمن بالوحدة الألمانية، شنّ من أجل توحيد ألمانيا ثلاث حروب، أدّت في النهاية إلى توحيد 39 ولاية مستقلة في دولة ألمانية واحدة عام 1871. وهكذا، أسس بسمارك “الرايخ الثاني”، وأصبح أول مستشار لألمانيا على الإطلاق.

وأدّى توحيد ألمانيا إلى إنشاء دولة جديدة في قلب أوروبا كانت كبيرة جداً، ومكتظة بالسكان، وغنية جداً، وقوية جداً، الأمر الذي ساهم في تعزيز رغبتها في تغيير ميزان القوى السائد وفرض نفسها دولة في مصاف الدول الأوروبية الكبرى الأخرى. وساعد انهيار ميزان القوى الأوروبي على اندلاع الحرب العالمية الأولى، والتي انتهت بهزيمة ألمانيا وحلفائها. وقد حاول المنتصرون في الحرب العالمية الأولى فرض شروط تؤدي إلى عدم عودة ألمانيا مرة أخرى. وفي هذا الإطار، يقول الاقتصادي البريطاني، والمشارك في مفاوضات مؤتمر فرساي، جون ماينارد كينز، إن الموقف الفرنسي في مؤتمرات فرساي كان يحاول “إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإرجاع ألمانيا إلى الوراء عن كل ما حققته من تقدم منذ عام 1870”.

المسألة الألمانية والحرب العالمية الثانية:

بعد فترة من الانكسار والتراجع بسبب خسارة الحرب العالمية الأولى، حقّق الألمان انتعاشاً مذهلاً في فترة سريعة جداً بين عامي 1933 و1938. وكانت نصيحة بسمارك أنه لا ينبغي لألمانيا أن تكشف رغبتها في أن تصبح قوة عظمى، لأنها ستجذب ضدها تحالفاً تمثله القوى العظمى، لكن هتلر تجاهل الدرس التاريخي، واندفع إلى حرب أراد من خلالها أن تصبح ألمانيا قطباً مسيطراً على أوروبا، ويطمح إلى هزيمة روسيا وفرنسا ويحتل أراضيهما.

بعد هزيمة ألمانيا، كان مستقبل ألمانيا من أهم المسائل التي تمّ النقاش بشأنها بين الحلفاء المنتصرين في الحرب. تشاطر الغربيون والسوفيات الرغبة نفسها في منع عودة ألمانيا القوية، فتمّ تقسيمها. فيما بعد، فرض القلق من صعود الاتحاد السوفياتي، والرغبة في احتوائه، على الغربيين أن يوحّدوا أجزاء ألمانيا الثلاثة التي يسيطرون عليها، وإنشاء ألمانيا الغربية الموحدة مقابل ألمانيا الشرقية، تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي.

المسألة الألمانية بعد انهيار جدار برلين

مَن يَطّلعْ على أرشيف الوثائق البريطانية والفرنسية، يجدْ أن الأوروبيين كانوا أكثر قلقاً من توحيد المانيا، بعد سقوط جدار برلين عام 1989، مما كان السوفيات أنفسهم، بينما شجّع الأميركيون تلك الوحدة وعملوا من أجلها. كان الأميركيون من أكثر الداعمين لألمانيا الموحدة، مع اشتراطهم وجوب أن تصبح ألمانيا الموحدة عضواً في حلف شمال الأطلسي. من جهة السوفيات، طالب غورباتشوف بداية بحياد ألمانيا، ثم عاد وقبل انضمامها إلى حلف الناتو، مشترطاً عدم وضع قواعد للحلف في ألمانيا الشرقية، ومنع نشر السلاح النووي فيها، والحصول على تعويضات.

كما تشير الوثائق التاريخية إلى أن رئيسة الوزراء البريطانية، مارغريت تاتشر، كانت أكثر القلقين والرافضين لتوحيد ألمانيا. طلبت تاتشر من غورباتشوف أن يفعل ما في وسعه لوقف وحدة ألمانيا. وكانت تاتشر تحمل في حقيبتها خريطة لحدود ألمانيا عام 1937، لتشرح للمسؤولين الآخرين كيف أن طابع ألمانيا القومية وحجمها وموقعها المركزي في أوروبا ستجعلها “مزعزعة للاستقرار، وليس عامل استقرار في أوروبا”. أمّا الرئيس الفرنسي، فرنسوا ميتران، فرأى “أن ألمانيا الموحدة يمكن أن تسيطر على حجم كبير من الأراضي الأوروبية، أكبر كثيراً مما حققه هتلر”. آمنت تاتشر، حينها، بأن فرنسا وبريطانيا يجب أن تتّحدا في مواجهة التهديد الألماني. ومن أجل تهدئة المخاوف، قدم المستشار الألماني هلموت كول تعهدات بشأن الدخول في الوحدة الأوروبية، وقبول عملة موحدة لأوروبا (اليورو)، وتقليص حجم جيش كل من ألمانيا الغربية والشرقية، والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل، وتقليص موازنة الدفاع، وتقديم تعويضات مالية إلى السوفيات.

المسألة الألمانية اليوم:

خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي، عانت ألمانيا الموحدة مصاعب اقتصادية واجتماعية متعدّدة، استمرت خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وأدّت الإجراءات الاقتصادية والإصلاحات، التي قام بها غيرهارد شرودر، إلى نهضة اقتصادية كبرى في ألمانيا، استفادت منها خليفته أنجيلا ميركل.حتى وقت حرب أوكرانيا، لم يكن هناك ما يشير إلى رغبة ألمانية في توسيع هيمنتها على القرار الأوروبي، أو الظهور في مظهر المهيمن، ولم يكن هناك أي قلق أوروبي أو استياء من القيادة الألمانية، باستثناء مرحلة قصيرة، هي مرحلة التفاوض خلال الأزمة اليونانية، والتي انتقد فيها بعض الأوروبيين التصرف الألماني والشروط القاسية التي وضعها الألمان من أجل حلّ أزمة الديون اليونانية. بعد نشوب الحرب الاوكرانية، أعلن شولتز أن “الغزو” الروسي لأوكرانيا نقطة تاريخية فاصلة في حياة ألمانيا، وأقرّ وضع ميزانية خاصة قوامها 100 مليار يورو لتحديث الدفاع، وزيادة موازنة الجيش، وأنه سيكون لألمانيا أقوى جيش في أوروبا، والثاني في حلف الناتو… إلخ.

بالتزامن، نرى أنه تطغى الشعبوية على خطابات الوزراء الألمان، وأبرزهم وزراء حزب الخضر، بحيث تعتمد وزيرة الخارجية الالمانية خطابات حربية، وتنخرط في حروب كلامية خلال لقاءاتها المسؤولين الروس والصينيين، بينما يدعو وزير الاقتصاد إلى زيادة دفاعية تتخطى السقف المطلوب من الناتو (2% من حجم الناتج القومي)، ويدعو إلى مساعدة أوكرانيا حتى انتصارها النهائي وهزيمة روسيا كلياً.

المصدر: الميادين/ ليلى نقولا