في 27 أيلول/سبتمبر، أضفى ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، طابعًا رسميًا على دوره الضمني كحاكم فعلي للسعودية بعدما أصبح رئيس الوزراء الرسمي للمملكة.
وكانت المرة الأخيرة التي اتُخذ فيها قرار مماثل خلال عهد الملك سعود عندما تمّ تعيين الملك فيصل لفترة وجيزة في هذا المنصب قبل تنحيته وذلك بحسب “منتدى فكرة” الأمريكي.
وفي حين يقود ولي العهد أساسًا الإصلاحات الاجتماعية-الاقتصادية في البلاد، يبقى السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان استلامه الحكم سيعني تبدلًا جذريًا في سياسة السعودية الخارجية.
وتساءل بعض المراقبين بشكل خاص عما إذا كانت هذه الخطوة مؤشرًا محتملًا على تغير موقف المملكة من تطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
وعلى الرغم من أن الإجابة على السؤالين سلبية، قد تترتب على التغيير الذي تشهده السعودية حاليًا نتائج مهمة على وضع العلاقات السعودية-الإسرائيلية الحالي والمستقبلي. فرفض الرياض الانضمام إلى الموجة الجديدة من توقيع “اتفاقيات ابراهام” لم ينبع فقط من رأي شخصي للملك سلمان، بل عكس سياسة المملكة الخارجية المعقدة التي تنتهجها منذ فترة طويلة.
وتمامًا كأسلافه، اشترط الملك سلمان الالتزام “بمبادرة السلام العربية” لتطبيع العلاقات مع “إسرائيل”.
بما أن السعودية تنتهج هذه السياسة منذ فترة طويلة، من المستبعد أن يكون محمد بن سلمان بانتظار انتهاء عهد الملك سلمان للتطبيع مع “إسرائيل” عبر آلية “اتفاقيات ابراهام.”
بدلًا من ذلك، من المتوقع أن يواصل ولي العهد تركيزه على جهود المملكة الحالية لتنفيذ إصلاحات ضخمة محلية على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
وتشمل هذه المساعي إعادة هيكلة العمل البيروقراطي، ورقمنة التفاعلات بين الحكومة والشعب وجعلها مركزية.
كما تضمنت إرخاء بعض القيود الاجتماعية، ولا سيما المرتبطة بأنشطة الترفيه. فمنذ فترة ليست ببعيدة، كان مجرد رؤية صور لنجوم بوب يغنون كلمات على غرار “أحضروا صديقاتكم ووافوني إلى غرفة الفندق” أمرًا غير وارد في السعودية.
وهذا الوضع كان سائدًا بشكل خاص عندما كان الملك سلمان أميرًا لمنطقة الرياض حيث فرض حكمًا محافظًا على العاصمة.
وكي يتمكن ولي العهد من تحقيق رغبته في الحفاظ على قدرة السعودية الشرائية ضمن الاقتصاد، لا بدّ من إجراء هذه الإصلاحات.
ففي مقابلة أجراها بن سلمان مع مجلة “ذا أتلانتيك” قال: “إذا كنت سأخفِّض معدَّل البطالة، وكانت السياحة ستوفر مليون وظيفة في السعودية، وإذا كنت قادرًا على جعل ثلاثين مليار دولار لا تُصرف خارج السعودية، ويبقى معظمها في السعودية؛ كي لا يسافر السعوديون بنفس قدر سفرهم الآن، فيجب عليَّ فعل ذلك [إرخاء القيود على أنشطة الترفيه].”
وهذا يدل أيضًا على أن الملك الحالي كلف ولي العهد بتنفيذ رؤية مشتركة لإقامة اقتصاد جديد يشكل وجهة سياحية واستثمارية. فهذه الإصلاحات، التي لا يزال البعض يشكك فيها في المملكة – على الرغم من أنها تحظى عمومًا بدعم الشريحة الشابة – تجري بمباركة الملك سلمان.
وحاليًا يدير ولي العهد (إنما لا يحكم) اقتصادًا طموحًا وفي الوقت نفسه يقيم توازنًا على صعيد سياسة خارجية تضم عددًا لا يحصى من العناصر المتغيرة وتصعب السيطرة عليها.
وفي حين تُعتبر الشرعية المحلية أهم من تلك الخارجية بالنسبة إلى السعودية، إلا أن إدارتها أسهل. علاوةً على ذلك، لا تزال الشرعية الخارجية في أوساط الأمة العربية والإسلامية الأشمل مهمة وحتمًا لا يريد ولي العهد التعامل معها باستخفاف.
وتثبت هذه العناصر المتغيرة والرغبة في الحفاظ على الشرعية الخارجية القيود التي يفرضها بن سلمان على تطبيع العلاقات مع “إسرائيل” خارج إطار “مبادرة السلام العربية.”
بعد “اتفاقيات ابراهام” التي اعتُبرت إنجازًا، وتغير المشهد الإقليمي للعلاقات العربية-الإسرائيلية (ولا سيما ذوبان الجليد في العلاقات السعودية-الإسرائيلية)، اعتبر البعض أن “مبادرة السلام العربية” أصبحت بالية.
لكن ذلك غير صحيح أقله بالنسبة إلى السعودية. فما من مؤشرات فعلية على أن ولي العهد ينوي التخلي عن المبادرة في وقت قريب.
غير أن تولي محمد بن سلمان رئاسة الوزراء يعني أنه أصبح قادرًا على وضع بصمته الخاصة على هذه المبادرة، ما يفضي بدوره إلى إعادة رسم السردية حسب كيفية تماشي أي علاقة محتملة مع “إسرائيل” مع مبادئها.
وعلى الرغم من أنه مر 20 عامًا على اقتراح السعودية لهذه المبادرة لأول مرة، لم تغب يومًا عن طاولة التداول. فعلى الصعيد الخارجي، غالبًا ما يساء فهم مقاربة السعودية إزاء هذه المبادرة، ولا سيما لجهة كيفية مساهمة اللغة المستخدمة فيها في جعلها قادرة على الصمود في وجه زوبعة العلاقات العربية-الإسرائيلية.
تجدر الملاحظة أن “مبادرة السلام العربية” ليست مُنزلة أو مبادرة قائمة على مبدأ الرفض أو القبول كما يرى البعض في “إسرائيل”، بل هي مصاغة بلغة مرنة عن قصد تشجع ضمنيًا التفاوض على مختلف المستويات.
وكما قال وزير الخارجية الراحل الأمير سعود الفيصل، فإن قوة المبادرة تكمن فعليًا في أنها لا تغوص في تفاصيل كثيرة.
وفي حين أنها كانت مصممة لتكون عملية تفسيرية بين العرب والإسرائيليين، يشير تولي بن سلمان المنصب الجديد إلى أن المرونة الملازمة لهذه المبادرة هي فرصة لشرح اللغة الضمنية بلغة تحفيزية أكثر صراحةً تجاه الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب على السواء.
فعلى سبيل المثال، يتمثل الهدف الرئيسي منها في التوصل إلى “حل عادل” للصراع، لكن تُرك تعريف الحل العادل وكيفية بلوغه عن قصد مفتوحيْن للتأويل.
وقد يكون ربط المبادرة بالمبادئ الإقليمية لرؤية 2030 أحد السبل لتحقيق ذلك. فالسعودية لا تسعى فقط إلى تنويع اقتصادها، بل إلى ضمان الازدهار الاقتصادي في المنطقة ككل.
فقد أدرك ولي العهد أن عدم الازدهار هو البوابة الرئيسية لانعدام الأمن. سواء في العراق أو اليمن أو فلسطين، يعيق انعدام الأمن الاستفادة من إمكانات المنطقة الاقتصادية إلى أقصى حدّ.
وبالتالي، نرى أن السعودية تميل أكثر نحو التكامل الإقليمي، لكن لا بدّ أولًا من معالجة المشاكل والشكاوى الرئيسية، ومن بينها بالطبع القضية الفلسطينية.
وبدا هذا الاهتمام واضحًا في البيان الذي أدلى به محمد بن سلمان في قمة جدة حيث قال “إن ازدهار المنطقة ورخاءها يتطلبان الإسراع في إيجاد حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية وفقًا لمبادئ وقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.”
ولا يجب النظر إلى منصب بن سلمان الجديد كرئيس للوزراء على أنه تمهيد للالتفاف حول القضية الفلسطينية، بل على العكس يمكن اعتبار دوره الجديد هذا فرصة لإعادة رسم معالم المبادرة وشرحها بصراحة بواسطة لغة أكثر تحفيزًا قادرة على حض الإسرائيليين والفلسطينيين وسائر الدول العربية على التوصل إلى تسوية.