منارة ثقافية مميزة

أوبرا دمشق تحتفي بعيدها الــ 19

من جماليات الأمسية الاحتفالية كانت الصولو المنفرد للمؤلف الموسيقي السوري وعازف العود المتفرِّد كنان ادناوي.

2023-05-10

منذ افتتاح أوبرا دمشق، وهي تسعى لأن تكون منارة ثقافية مميزة، من خلال نشر الثقافة الموسيقية والمسرحية، وتطويرها ورفع مستواها، وإحياء التراث الوطني الثقافي الشعبي والاجتماعي.

أجمل ما تميّز به الحفل الفني الذي أحيته “الفرقة الوطنية للموسيقى العربية” بقيادة المايسترو عدنان فتح الله بمناسبة الذكرى الــ 19 لتأسيس “أوبرا دمشق”، هو مجموعة المؤلفات التي تُقدَّم للمرة الأولى وهي من إبداع موسيقيين سوريين.

بدأ الحفل على خشبة مسرح الأوبرا في دمشق بافتتاحية موسيقية من تأليف مهدي المهدي اندغمت فيها أصوات الآلات النفخية مع آهات بشرية على خلفية لجوقة الكمانات والآلات الوترية الأخرى، محققةً دراما تتصاعد إلى ذروتها بعنفوان مميز مع تعالي الأصوات وصولاً إلى الخاتمة.

وجاءت هذه الافتتاحية بمثابة حالة احتفالية تشترك فيها جميع عناصر الأوركسترا، مع المحافظة على الأسلوب الشرقي في التلحين، والبقاء ضمن الأجواء التي تحمل عبق التراث الموسيقي بصيغة الزخم الأوركسترالي الملحمي، أي أنها قاربت أفكار افتتاحيات الأعمال الكلاسيكية والاحتفالات الموسيقية في عصر الباروك وأيضاً افتتاحيات ياني وعمر خيرت في العصر الحديث لكن بصبغة سورية بحتة.

ومن جماليات الأمسية الاحتفالية كانت الصولو المنفرد للمؤلف الموسيقي السوري وعازف العود المتفرِّد كنان ادناوي الذي استطاع من خلال تكتيك متميز في ضرب الريشة والعفق تسخير أقصى إمكانيات آلته للوصول بوصلته الإفرادية على مقام البيات إلى أقصى درجات السلطنة، وزادها تجاوباً مع الجمهور إدغامه لها مع لحن أغنيات معروفة مثل “دزّني واعرف مرامي” ثم “آه يا حلو يا مسليني”.

وهناك أيضاً افتتاحية للعود والأوركسترا من تأليف ادناوي بعنوان “لقاء” وهي عبارة عن متتالية موسيقية من 5 حركات قصيرة تتناوب فيها ألحان آلات النفخ عموماً والأوبوا خصوصاً مع العود، ليشاركه الحوار اللحني أيضاً الكمنجات والخشبيات، مُقدِّماً طابعاً درامياً مميزاً، بحيث تظهر هوية العود الشرقية كتطريب هادئ مع ارتجالات على مقامي الراست والبيات وذلك ضمن قالب موسيقي مختلف مع الأوركسترا.

بينما يتحوّل المقطع الأخير من النهاوند للعجم الذي يوحي بطابع بطولي فرح حيوي، وهو ما خدم اللحن ذا الحياة والحيوية الواضحة، ليكون الختام مع التركيز على العود بشكل تقني بحت، كأنه يغرد لنفسه ويحلّق فوق الموسيقى بين الريجيسترات والمساحات التي يؤديها.

وإضافة إلى التكنيك العالي لعود ادناوي يبرز خليط من الألحان، فالإيقاعات لها لحنها الخاص، والكمنجات أيضاً، وللخشبيات لحنها الخاص، وكذلك للهورن والترومبون، حتى نصل إلى ذروة الختام في سياق احتفالي يجمع بين الأسلوب الشرقي الواضح ضمن توزيع أوركسترالي فريد.

ومن المقطوعات التي أبدعها مؤلفون سوريون كان جمهور الأوبرا على موعد مع “دبكة رقم 1” من تأليف عدنان فتح الله، ويظهر فيها أثر بيئته فهو ابن يبرود والدبكة جزء من تراثها، لتأتي المقطوعة على مقام البيات بتنويع إيقاعي مع الأوركسترا، وتبرز جماليات القالب الهارموني لربع النغمة الشرقية.

وزاد من ألق هذه المقطوعة استخدام آلة الزورنا (المزمار) ضمن لحن ليس اعتباطياً ولا ارتجالياً وإنما بشكل مدروس ومنوَّط، بحيث جاءت دخولات هذه الآلة بمثابة فرح متجدّد لقي احتفاءً كبيراً من قبل المستمعين.

أما مقطوعة “رقصة منتصف الشهر” لفتح الله والتي تقدّم للمرة الأولى فهي على مقام صبا الكورد، تبدأ بـ 4 موازير إيقاع تأتي كإنذار معلنةً بداية الرقصة، تدخل بعدها الوتريات بشكل هادئ وحذر، لتتصاعد الأوركسترا وتدخل بلحن الرقصة الأساسي، وبعدها يشترك العود والقانون بالرقصة على مقام الراست.

نلحظ بعدها تغييراً مقامياً مع صولو الأوبوا الذي يأتي بشكل مفاجئ من دون مقدمات تشي بذلك، ليبدأ مقام “الدّوريان” بمرافقة الوتريات بشكل راقص، أما الختام فتمّ عبر إعادة اللحن الأساسي لكن مع تصعيد بالكروماتيك والآلات النفخية النحاسية.

وضمن إحياء التراث الموسيقي السوري قدّم كورال الفرقة الوطنية للموسيقى العربية موشّح “في الروض أنا شفت الجميل” من ألحان عمر البطش، على مقام الحجاز كار كرد، ضمن توليفة حوارية جميلة بين الأصوات النسائية والذكورية، تعززت مع إيقاع الثُّريا المركب والمميز الذي ضبط ذاك الحوار وأضاف نكهة خاصة للتناغم في أداء الكورال.

ليندا بيطار غنت بعذوبة مجموعة من أغاني فيروز بألحان العبقري فيلمون وهبي، مفتتحةً وصلتها بـ”طلعلي البكي” من مقام النهاوند، لتتابع مع أغنية “أنا خوفي من عتم الليل” على الراست، ثم “يا دارة دوري فينا”، وبعدها “صيِّف يا صيف ع جبهة حبيبي”.

ومن خلال هذه التنويعات في المناخات الشعرية والمقامات الموسيقية أثبت صوت بيطار بهدوئه وحنانه قُدْرَتَهُ على التفرُّد في أداء أغنيات يخشى كثيرون من الاقتراب منها، كي لا يقعوا في فخ المقارنة مع الصوت الفيروزي الآسر.

كما قدّمت المغنية سيلفي سليمان من الأغاني الكلثومية أغنية “أنا في انتظارك” واستطاعت بخامة صوتها المميزة واشتغالاتها التطريبية، وتطريزها على قماشة اللحن الأساسي أن تحقق خصوصية التقطها جمهور قاعة الأوبرا وتفاعل معها بالغناء والتصفيق. الأمر ذاته تحقق مع القدود الحلبية التي قدمها المغني محمود فارس بصوته الرخيم وجماليات انتقالاته المقامية وقوة حنجرته.

ابتدأ بشعر البوصيري وقصيدته “نعم سرى طيف من أهوى فأرقني والحب يعترض اللذات بالألم”، ومنها إلى توليفة لأغنيات “والنبي يما اعذريني”، ثم “صيد العصاري يا سمك يا بني”، تلتها “يا طيرة طيري يا حمامة”، ليكون الختام مع “يا مال الشام” التي أججت مشاعر الجمهور، ولا سيما مع أثر تلك الأغنيات في الذاكرة الجمعية، فشارك المغني الحلبي بالتصفيق والغناء.

يذكر أنه منذ عام 2004، تاريخ افتتاح أوبرا دمشق، وهي تسعى لأن تكون منارة ثقافية مميزة، من خلال نشر الثقافة الموسيقية والمسرحية، وتطويرها ورفع مستواها، وإحياء التراث الوطني الثقافي الشعبي والاجتماعي، وتعريف المجتمع بالفنون العربية والعالمية، وتشجيع حركة الإبداع فنياً واجتماعياً وثقافياً، والمساهمة بنشر هذه الفنون لدى مختلف أوساط الشعب.

ورغم بعض العثرات التي اعترضت طريقها، بسبب الحرب على سوريا وتبعاتها، إلا أنها ما زالت مواظبة في مهامها وسعيها للمساهمة في النهوض الفني، والقيام بشراكات ثقافية من شأنها تعزيز الاطلاع على تجارب عربية وأجنبية والاستفادة منها من دون التخلي عن الخصوصية السورية للفن والثقافة.

بديع صنيج

المصدر: الوفاق/ وكالات