قلق أطفال غزّة حين يسافرون للمرة الأولى:

هل للطائرات دورٌ غير القصف؟

بعد كل عدوان ينتهي على سكان قطاع غزة تغيب آثار الطائرات وأصوات القصف، لكن تداعيات مختلفة تظهر.

2023-05-12

تغيب أصوات الانفجارات ومعها يغيب هدير الطائرات الحربية في كل مرة بعد العدوان الذي يشنّه الاحتلال على الفلسطينيين في قطاع غزة، لكن التداعيات لدى الكبار والأطفال لا تمضي، بل تشكّل آثاراً نفسية تصاحبهم أينما حلّوا.

سنوات الحرب

الطفل يوسف السندي من جنوب قطاع غزة أحد الأطفال الذين غادروا القطاع، عندما تسأله عن عمره يجيب بطريقة واحدة: “احسبها أنت.. لقد عشت ثلاثة حروب، فعمري الآن عشر سنوات”، في إشارة مرعبة لحياته التي قضاها في قطاع غزة قبل أن يسافر برفقة والديه، ولم يكن يعرف أن هناك مهمة أخرى للطائرة غير قصف الناس وإلقاء الصواريخ المدمّرة نحوهم.

طفل يعيش عشر سنوات يتحدث عن المجازر والموت والقصف من دون ضوابط، فهو شاهدٌ حيّ على أشكال الموت كافة التي يمارسها الاحتلال تجاه شعبه في قطاع غزة، وعندما شاهد الطائرة للمرة الأولى خاف من ركوبها واضطربت مشاعره، وباغت والده بالسؤال لماذا نركب الطائرة التي تلقي حمم النار تجاه الناس، ليحاول والده بعد ذلك السيطرة على شعوره وقد شرح له أن هذه الطائرة لنقل الناس من مكان إلى آخر، وتسمّى “طائرة مدنية” وأن تلك التي يقصدها تسمّى “طائرة حربية”.

في كل جولة تصعيدٍ إسرائيلي، كان الطفل يفقد شيئاً من توازنه –وفقاً لوالدته- وتأخذه الكوابيس إلى مشهد قتله، أو قتل أصدقائه بصاروخٍ تسقطه طائرة مهمتها توزيع الموت بين سكان القطاع، ويرتعد من صوت بابٍ ارتطم بفعل الهواء، ويبكي لمجرد سماع هدير أصوات طائرات حتى لو لم تقصف.

“يا ماما أنا ما بدي أموت”، أكثر جملة قاسية يضربها يوسف في مسامع أمه هالة، أمٌ فعلت المستحيل لتكسر حاجز الخوف وتنجو بطفلها، ولو مؤقتاً، عبر السفر للمرة الأولى في حياتهم.

أغمض يوسف عينيه، وأغلق أذنيه قبل أن تقلع الطائرة، لا يريد سماع الصوت الذي كان يظن أنه يشبه صوت صفير صاروخٍ يسقط من أعلى، وعندما ارتفعت الطائرة عن الأرض، اختلف كل شيء، وأخذ يتلصص النظر نحو النافذة، وملامح وجهه تتغيّر، ليضحك أخيراً قائلاً: “كأنها أرجوحة وسط مدينة ألعاب”، ويضيف أنه “الجنون”. “أين نحن من هذا العالم يا بابا؟ كيف لإنسانٍ يطير هكذا أن يستغلّ لحظاته هذه بقتلنا؟”، ويقول والده: “لم أكن مصدوماً من أسئلته الكبيرة جداً على سنه، لكنها حقيقة فكيف تغيّرنا الحروب وتكبّر أطفالنا ليعرفوا الموت ولا شيء غيره”.

ذكريات لا تنتهي 

في الحقيقة، لم يعرف أبناء غزة عن “الطائرة” إلا أنها سبب موت الكثيرين، جسم مُغيرٌ يحمل رسماً لنجمة “إسرائيل”، ويقذف حممه فوق رؤوس سكان القطاع، كما أنه لا يعرف الغالبية من الأطفال الفلسطينيين الكثير عن مطار غزّة الدولي الذي دمّره الاحتلال الإسرائيلي عام 2002، ودمّر معه أي طريقٍ يصل بين الفلسطينيين والمستقبل.

وتذكر الشابة تسنيم ابنة الحصار ، وهي التي غادرت قطاع غزة لتعمل في دولة الكويت الشقيق، أن مشهد الطائرة خارجاً يعيد للأذهان الصورة النمطية للطائرات الحربية التي تهيمن على مخيلتها لقطاع غزة أثناء العدوان.

وتضيف أنها في إحدى المرات كانت برفقة صديقاتها أثناء إجازة العيد الوطني الكويتي يتنزهن في حديقة بوليفارد في منطقة السالمية، وبينما كنّ جالسات سمعن صوت هدير طائرات حربية، وتنامى في دواخلهن شعور بالخوف، فاتسعت أعينهن وانتفضت أجسادهن، وتبادرت لأذهانهن مشاهد قصف الأبراج في غزة.

مشهد مروّع بالنسبة لفتاة غادرت بحثاً عن بيئة أفضل من تلك التي غطى العدوان أحجار مدينتها، فلا تكاد تمرّ من شارع في قطاع غزة لم يكن شاهداً يوماً على جريمة قصف وعذابات فقد وشهادة كتبت بالدم على الجدران.

وقالت تسنيم: “وقفنا عند سماع الصوت، وكان الجميع من حولنا قد استمتع بصوت الطائرات التي تحلّق احتفالاً باليوم الوطني لدولة الكويت، فيما انزعجنا نحن لما أعاده هذا الصوت من مشاهد حملتها ذاكرتنا رغماً عنّا من مكان ننتمي إليه ويعيش فينا”.

مؤشرات نفسية خطرة

قصص السفر هنا قاسيةٌ، وأمام الإنسان خياران فقط، إما عبر حاجز بيت حانون – “إيرز” – شمالي القطاع، الذي تتحكّم فيه “إسرائيل” وفق مزاجها اليومي، أو من خلال معبر رفح البري نحو مصر، الذي يمكن أن يغلق في أي لحظة، ولأسبابٍ غير واضحة أيضاً، وجدير بالذكر أن تجربة الناس في هذه البلاد مثيرة، لكنها مثيرة للحزن قبل كلّ شيء.

وأعلن البنك الدولي، والجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، الشهر الماضي، نتائج مسح الظروف النفسية في فلسطين للعام 2022، وأشار المسح إلى أنّ نسبة 71% في قطاع غزة يعانون من الاكتئاب، وأُعدّ هذا المسح بعد العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في أيار/مايو لعام 2021، حيث اشتمل على ثلاثة مؤشرات، وهي: الاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، واضطراب الصحة النفسية الشائعة.

وقال أردن فين، من البنك الدولي، إن توتر الصحة النفسية يصبح أكثر سوءاً إذا تعرّض المرء لحادث صادم، فعندما أجرى مسحاً عشوائياً في قطاع غزة عن العدوان الذي تعرّض له السكان عام 2021، كانت نتائج الفحص أن 10% من الأشخاص قد فقدوا أحد أفراد عائلتهم أو صديقهم، و10% آخرون تعرّضوا للإصابة، وأن 25% قد هدمت بيوتهم أو تعرّضوا لضرر.

وأفاد مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) عن زيادة في الاضطرابات النفسية بين السكان الفلسطينيين في قطاع غزة، وخاصة بين الأطفال، الذين كان العديد منهم بحاجة بالفعل إلى خدمات الصحة العقلية والدعم النفسي والاجتماعي، وسط الهجمات الإسرائيلية المدمّرة والمتكررة.

المصدر: الميادين