“غاليري دمشق” يحتضن معرض “عيون سورية”، في مساحة تجمع نماذج من الفن التشكيلي السوري، منذ بداياته وحتى الوقت الحاضر.
أسئلة كثيرة طرحها معرض “عيون سورية”، الذي أقيم مؤخراً في “غاليري دمشق”، وضمَّ أعمالاً لجيلين مهمين في محترف التصوير السوري الحديث؛ جيل أسَّس لملامح الحركة التشكيلية السورية متمثلاً بفاتح المدرس، نصير شوى، محمود حماد، لؤي كيالي، نذير نبعة، نعيم إسماعيل، ومروان قصاب باشي، وجيل آخر يتابع التأسيس، تمثّل بنزار صابور، حمود شنتوت، أحمد معلا، علي مقوص، فؤاد دحدوح، بهرام حاجو، وسعد يكن.
من تلك الأسئلة ما يتعلق بسيرورة الحياة التشكيلية في سوريا عموماً، وما هي أبرز محطاتها؟ وما الذي يؤسس لخصوصيتها؟ وأين تكمن ملامح حيويتها؟ وهل شكَّلت حركة تشكيلية أم أنها بقيت في إطار التجارب الفردية للعديد من المصورين السوريين، على اختلاف المواضيع التي تناولوها والتقنيات التي لجأوا إليها للتعبير عن أفكارهم؟
وهناك أسئلة تختصّ بالجيل المؤسس، أبرزها كيف استطاعوا أن يسجلوا أسماءهم في تاريخ التصوير السوري الحديث، وأن يكونوا علامات فارقة في المشهد؟ بحيث أن أعمالهم على تنوع مدارسها وأساليب الاشتغال عليها، بقيت محافظة على طزاجتها وحيويتها عبر الزمن.
كما يطرح المعرض إشكالية استمرارية نسغ الحياة التشكيلية السورية، من الجيل المؤسس بكل ما أثبته من فرادة وغنى وتنوع، إلى الجيل الذي تلاه، ويسعى لترسيخ ملامح من الخصوصية في أعمال تجعله قادراً على مواصلة التأسيس، وكيف بنى فنانو ذاك الجيل تلك الملامح؟ ثم هل هناك من آثار يمكن رصدها في لوحاتهم تعود إلى من سبقهم؟ وما مدى تأثرهم وتأثر أعمال الجيل السابق لهم بالحركة التشكيلية العالمية، بمدارسها وتياراتها المتنوعة؟
كما يتبادر إلى الذهن هاجس التأصيل الذي بدأه الجيل المؤسس، أو ما يسميه بعض النقاد بـ”جيل التحديث”، وذلك عن طريق البحث في التاريخ البصري لسوريا، ومحاولة إيجاد إجابات تشكيلية تعطي اللوحة معناها ومشروعيتها.
وبناء على ذلك، يطرح سؤال ما هو أثر النقد واشتغالاته التقويمية في تطوير حركة التصوير في سوريا؟ أم أن الارتقاء كان نابعاً من تفكير الفنانين أنفسهم بعيداً عن الأحكام النقدية، وارتكازهم فقط على تجربتهم الشخصية، والسعي لزيادة زخم أعمالهم وإشباعها بالحياة، وتثوير قدرتها على تجاوز الزمن؟
بالإضافة إلى الأسئلة الكثيرة السابقة، حما معرض “عيون سورية” زخماً جمالياً، أعاد إلى الذاكرة لؤي كيالي وصياغته الحيوية للخطّ الذي يُحدِّدُ ملامح الشكل داخل اللوحة، وزهوره التي قدَّمها بنوع من الواقعية التعبيرية المحملة بكثير من مشاعر الأسى والقلق، وكأنها استكمال لهواجسه في تصدير الهم الإنساني بحالاته المختلفة، وصوره لشخوص كانت أم نباتات.
الحس الجمالي يتواصل من خلال أعمال فاتح المدرس وعمقها الشعوري، التي رغم بساطة أسلوبها تعتبر خلاصة تجربة عميقة في تدوير فهمه للمدارس التشكيلية الغربية، وإسقاطها على الجغرافيا والبشر الذين عاش معهم، ونتلمَّس في كثير من ملامحها حيرة الكائن في الزمن، وذلك بلطخات ريشة تخفي الملامح لصالح المعنى العام للعمل، مع خطوط قوية وألوان مفعمة بخصوصية البيئة وشواغل المدرس النفسية.
رصانة محمود حماد وشغفه بتكوين بصمته الخاصة، تبرز من خلال أسلوبه في فهم المساحة والضوء ومنهج التلوين، مع شيء من التجريد وآثار واضحة للمدرسة التكعيبية، في عمله ذي التنويعات اللونية القاتمة وضربات الريشة الطويلة، قبل أن ينتقل إلى لوحاته الحروفية التي استقرت فيها هويته كفنان تشكيلي، يقوده الخط العربي إلى آفاق فنية واسعة ورحبة.
بالمقابل، تأسرنا فطرية نصير شورى، وولعه بالخطوط المنحنية والحركة اللا متناهية التي تنتج منها، إلى جانب تميز البنية اللونية لأعماله، خاصة مع استخدامه الضوء وخطوطه الواثقة، الذي أسس لنوع من الشاعرية والمسحة الصوفية، التي تعطي الأولوية للشكل ولتوازنات الكتلة والفراغ على حساب الموضوع.
كما تلفت أعمال نذير نبعة بخصوصيتها على مستوى التفاصيل والتشكيلات الفنية، إضافة إلى ولعه بتحويل المرأة بلباسها الشعبي إلى موضوعة جمالية تحيل إلى ما هو أبعد منها، لذا نرى العناية الفائقة بتزيينها بالألوان ومحاولة اكتناه المعنى من كل تفصيل، كحركة اليد ولمعة العينين وانحناءة الرأس، لنكون أمام فلسفة خاصة في التصوير يمكن تلخيصها في البحث عن الروح بالاستعانة بالأسلوب الفني.
يُعيدنا نعيم إسماعيل إلى اهتمامه بالزخرفة، في لوحة المرأة التي تحمل طفلاً، محيلاً إياها من مجرد زينة للأشياء إلى تصوير يحمّلها بالقدرة على التعبير عن موضوعات إنسانية واجتماعية واقتصادية. وعلى بساطة عمله، إلا أنه مشبع بالقيم التشكيلية، سواء على صعيد التكوين أو المساحات اللونية، كأننا أمام لغة تستلهم جذورها من المشاهد البصرية السورية، لتمضي إلى خصوصية فريدة في التعبير.
أما بورتريه مروان قصاب باشي فتشي ملامحه بالعذاب، وينضح بقدرته في التعبير عن الحالات الوجودية العميقة، التي تعكس رؤية هذا الفنان الحسية للعالم، وهو ما اتخذه طابعاً أساسياً لسائر أعماله، فكيف إن كان البورتريه المعروض في “غاليري دمشق” لوجه امرأة تنعجن ملامحها مع اللون ليصيرا ثنائية للأسى، رغم الهالة التي تحيط برأسها، وكأن الألم هو طريق للقداسة، أو أن قداسة البشر لا تصلح إن لم تمر عبر الألم.
في مقابل الفنانين الـ7 المؤسسين، تلفتك بصمة نزار صابور الخاصة في اشتغاله ضمن اللوحة وخارجها، لنكون أمام باب يسمح بالولوج إلى العمل الفني، وفي الوقت ذاته الابتعاد عنه. لكنّ هذا الابتعاد هو للانصهار أكثر بشخوص ذاك الباب الخشبي وزرقته الآسرة، فهم مرتصون فوق بعضهم تفصلهم مساحات من اللون الذهبي، وكأن زمناً مديداً مرَّ بهم وهم على هذه الحالة من الانتظار المرير.
يتابع فؤاد دحدوح اشتغالاته اللونية بحيوية عالية، بينما تستمد خطوطه قوتها من اقتصادها وتوازناتها الدقيقة مع مساحات اللون وضربات الفرشاة المرهفة، بحيث أن امرأة مستلقية في أسفل اللوحة بجانب آنية زهور كفيلة بتثوير فضاء العمل ككل، خاصة أن دحدوح أسس عمله ضمن كوادر مدروسة، تتناهبها انزياحات وتداخلات في الألوان والخطوط السوداء بعفويّة آسرة.
مشهديات حمود شنتوت الآسرة تتواصل مع امرأة جالسة أمام باحة بيت عربي قديم، ببحرة تتوسطه وشبابيك وأبواب طينية، وبعض الأشجار المثمرة وأخرى متدلية من السطح، وكأنه يجمع بتوليفته البصرية الخاصة بين عشقه للبيئة السورية ومفرزات شغفه بالاشتغال على الأيقونات، وهو ما يبرز من خلال ألوانه الذهبية في الغالب، الموشّاة ببعض الأخضر، مع مراعاة شديدة للضوء والظل، ما يحقق لأعماله قدرة عالية على الجذب البصري، واستكمال معنى اللوحة بالتأمل في تكويناتها الجمالية العديدة.
تحيلنا لوحة أحمد معلا إلى دراما من نوع مختلف، حيث الصراع بين الرجل والمرأة على أشده، وحيث تختفي ملامح الوجوه لصالح خطوط خارجية صفراء قوية تحدد الشكل، وتزيد من إحساس الحركة ضمن المشهد الذي يريده معلا متحرراً من أي قيود لها علاقة باللون أو الشكل، لصالح قوة في التعبير وإدغام العمل في الهواجس النفسية لصراع أزلي، يصوره الفنان على خلفية من الخراب المديد، وكأنه يريد القول إنه لا رابح ولا خاسر في معركة الوجود، وإنما اقتناص لهدنة ما عبر جمال الفن.
يواصل سعد يكن رصف شخوصه السابحة في فضاءات توازن بين العدم والوجود، وكأنها على مستويات من الحياة، وفي الوقت ذاته ضمن درجات متفاوتة من الألم والإحساس بالغبن، كل ذلك يصوره الفنان بتحويرات بشرية على خلفية رمادية مسيطرة، لا تلبث أن تنقشع في أعلى اللوحة على ما يشبه الغابة، ويفصل بينها خط أحمر قوي.
أما الفنان بهرام حاجو، فيترك شخوصه هائمة في فضاء اللوحة الأبيض من خلال لغة الجسد، وكأنها تعيش عزلتها الخاصة وشحوبها المزمن. وفي مقابل الانزواء هناك مواجهة، وإزاء الملامح الواضحة ثمة طمس لأخرى، كل ذلك ضمن شحنة تعبيرية تسمح بها مَسْرَحة اللوحة إن صح التعبير، بألوانها الجريئة بين الزهري والأبيض والأسود والترابي، ودراسة متقنة للفراغ المحيط بالأشخاص.
وتتكرر في أعمال علي مقوص الشجرة التي تحتلّ مركزاً محورياً، بما تحمله من معنى رمزي عن الخصوبة والحياة والبركة، لا سيما في ظل فلسفة التلوين الخاصة التي ينتهجها من عجينة الألوان الترابية، وجعْل الشجرة الرابط الوحيد مع الأرض، فهي رمز كل الموجودات، لذا يغلفها مقوص بشيء من الشاعرية والروحانية العالية، بحيث أن قوة عمله لا تقتصر على القابلية المستمرة لتأويل الموضوع، بل كذلك على إسقاطاته الفلسفية فيما يتعلّق بمفهوم الخصوبة، والعودة للطبيعة، ورفض العالَم الاستهلاكي.
بديع صنيج
صحافي من سوريا