في الذكرى العاشرة لمعركة تحرير مدينة القصير الاستراتجية من الإرهابيين، تحكي هذه المقالة رواية التحرير التي أسست لمشهد عسكري جديد في سوريا من قلب منطقتها الوسطى وحدودها.
ففي التاسع عشر من شهر أيار عام 2013 م وبعد شهرٍ واحد على انتهاء معارك ريف القصير طال صوت القوات التي لم تختبر في معركة فشلت في مثيلاتها أقوى جيوش العالم وبدأت معركة القصير.. .وسطَّر المجاهدون أروع ملاحم البطولة على مدى ثمانية عشر يوماً تمكنوا خلالها من تحرير المدينة والقضاء على أعداد كبيرة من الإرهابيين بمختلف فصائلهم التكفيرية. وشكلت معركة القصير مفصلاً في تاريخ المقاومة، وتمكن المجاهدون من تسجيل نصرٍ جديد في سجل الانتصارات.
الأمين العام لحزب الله يحسم اتجاه الهجوم
بعد انتهاء معارك غربي العاصي وريف القصير حوصرت مدينة يسكنها إرهابيين قتلة كانت تريد الانقضاض على مدينة الهرمل في شرق البقاع اللبناني وتتوعد بإزالة حزب الله . عند هذه المرحلة بدأ النقاش: هل نهاجم القصير ومن أي جهة؟
بعد حسم القيادة لقرار الهجوم على مدينة القصير، كان النقاش يدور حول سؤال من أي اتجاه تبدأ المقاومة الهجوم ، هل تبدأ من الاتجاه الشمالي أي من تل مندو باتجاه عرجون ومن عرجون وتلتف على مطار الضبعة وتتقدم نحو القصير، أو تبدأ الهجوم من الاتجاه الجنوبي وتبدأ العملية الهجومية من جسر المشتل باتجاه القصير؟”.
هنا جاء دور القيادة. حسم سماحة الأمين العام القرار. أعطى السيد حسن نصر الله الأمر بأن يكون الهجوم من الاتجاه الجنوبي وليس من الاتجاه الشمالي، من نقاط التماس التي وصل إليها المجاهدون مع القصير.
كانت قيّمة هذه المعركة عبر القضاء على القاعدة اللوجستية التي تغذّي الثورة السورية، وإلزام العدو بتغيير اتجاه عمله. في تلك المرحلة، لم يكن تنظيم “داعش” قد ظهر بعد، بل كان لا يزال جزءًا من الإطار العام لمّا يسمى “الثورة السورية”. كان لجبهة “النصرة” حضورها في القصير، لكن التشكيل الأقوى كان “كتائب الفاروق”، المنتشر على كامل الأراضي السورية. فكتائب الفاروق كانت حينها في إدلب وحلب ودرعا.. لكن بُنيتها الأساسية كانت في منطقة حمص والقصير بشكلِ أساسي (القصير مقر القيادة لكتائب الفاروق)..
علائم القوة لدى العدو
كان لدى العدو الكثير من علائم القوة: “الاستقطاب الكبير للمقاتلين إضافةً إلى أعدادهم الكبيرة وتشكيلاتهم، وسيطرتهم على الكثير من أسلحة الجيش السوري، فضلًا عن الأسلحة التي كانت تصلهم”. هناك، كان لدى المسلحين أهمّ الأسلحة الفردية في العالم، والمزودة بمناظير، ودبابات و”مدافع هاون” غربي وشرقي، إضافة الى صواريخ الكورنيت المتطورة والحديثة.
في الشكل العام، كان هناك توازن في القدرة القتالية بين المقاومة من جهة والإرهابيين من جهة أخرى، على مستوى نوعية الأسلحة. أمّا على مستوى الأعداد البشرية، كان المسلحون يتفوقون في العدد. تضاربت الأقوال حول أعداد المسلحين هناك، لكن الرقم الأقل الذي قيل هو 6 آلاف مقاتل للعدو داخل مدينة القصير مع أسلحتهم وعتادهم ودباباتهم ورشاشاتهم الثقيلة ومدافعهم. أمّا تشكيل المقاومة لدى مهاجمة القصير فكان: 14 محورًا، 14 سرية. وقوة القتال الفعلية الأساسية كانت قرابة الـ 1800 شاب فقط.
كذلك تنتمي مدينة القصير إلى المدن ذات الدفاع المحضّر، أي إنّ المدافعين عنها أخذوا كامل وقتهم في عملية تحضيرها للدفاع. حفروا الأنفاق المعقّدة التي تربط الساحات والمنازل والشوارع ببعضها البعض من أجل سهولة التحرك وضرب المهاجمين من الخلف والالتفاف عليهم. عزّزوا مستوى التحصين من أجل رفع مستوى الحماية. أقاموا الملاجئ المحصّنة تحت الأرض لتحميهم من النيران التمهيدية والتدميرية. جهزوا مواضع الأسلحة، وخاصة مواضع القناصة باحتراف كبير. حددوا أماكن الكمائن التي تصطاد المهاجمين. كل هذا كان ينذر بمعركة قاسية مع المدافعين، الذين يحفظون شوارع المدينة عن ظهر قلب، معتقدين أنّهم سيكسرون أي هجوم ينطلق نحوهم، في معركة قد تمتد لعدة أشهر.
سير العملية
إنّ التحضير الدفاعي الاستثنائي للإرهابيين، ونوعية المقاتلين، كانا يحتاجان إلى تعامل ذكيّ من قبل قيادة المقاومة، يعطيها القدرة على تحقيق الهدف بأقل التضحيات، وبوقتٍ أسرع، وبمشهد نصرٍ يُؤسَس عليه للمستقبل. فكانت تلك الخطة الهجومية المحكمة، وكان مجدّدًا عامل المفاجأة من أسباب سرعة الحسم، إذ حوّلت قيادة المقاومة مدينة القصير، من مدينة محضّرة جيداً للدفاع إلى مدينة دفاعاتها أقل تحضيراً، وذلك لأنّ الإرهابيين كانوا يتوقعون الهجوم من جهة الشمال، فكان شمال مدينة القصير ووسطها الأكثر تحضيراً على مستوى التحصين والتدشيم وشبكات الأنفاق المتصلة ببعضها بعضاً. لكن المقاومة هاجمت من الجنوب، وتركت الجهة الشمالية منفذاً لهم للهروب.
وهكذا بعد الانتهاء من تحرير منطقة ريف القصير، أصبحت مدينة القصير في يوم ٢٦ نيسان بين فكيّ كماشة وسط تقدم سريع وحاسم. وبدأ هجوم حزب الله والجيش السوري على المدينة في شهر أيار بعد أن تمت السيطرة على مجمل القرى الواقعة غرب نهر العاصي والتي تشكل حلقة الوصل بين القصير والشمال اللبناني مّا أجبر المسلحين على سحب المئات من حمص للحفاظ على مواقعهم في القصير، فتمكن مقاتلو حزب الله وجنود الجيش السوري من عزل المدينة وإطباق الحصار عليهم. وذلك بعد استقدام تعزيزات من درعا ومن دمشق مستفيداً من إنهاك فصائل المسلحين وتشتت استراتيجيتهم بين القصير وحمص.
تمّ دكّ آخر جيوب مسلحي المعارضة وجبهة النصرة، وتحديد مخابئ آمري المجموعات الأساسية وضربها وتدمير غرفة العمليات المركزيّة لمقاتلي جبهة النصرة الذين يقودون المعارضة في المدينة، مّا أدّى إلى ضرب آليّة التحكّم والسيطرة لهؤلاء المسلحين، كما أفقدهم القدرة على الاتصال والتواصل فيما بينهم. جاء ذلك فيما الحصار المضروب عليهم بدأ يعطي مفاعيله، خصوصاً لجهة الإمداد بالوقود وصولاً إلى ثقل الخسائر البشريّة التي وقعت في صفوف المسلحين. فقد كانت ثمة تقديرات لدى الجش السوري وحزب الله في اليوم الذي سبق السقوط، بأنّ عدد قتلى المسلحين قد قارب الألف، فضلاً عن نحو 400 جريح باتوا يشكّلون عامل ضغط كبير عليهم، فيّما خلت المدينة من وجود أي مدني بعدما نزح جميع أهلها إلى خارجها.
وقبل أيام من تحرير القصير استعاد الجيش السوري السيطرة على مطار الضبعة وقسم كبير من جنوب المدينة. وقطع بذلك خطوط الإمداد عن المسلحين الذين تمركزوا في شمال المدينة ووسطها وغربها.
انتهت معركة القصير، وعادت المقاومة إلى الموقف الدفاعي، وباتت التهديد في السلسلة. في أواخر عام 2013 وبداية الـ 2014 جمع الإرهابيون كل عسكر القصير والقلمون، وحاولوا أن يناوروا على المقاومين بعملية هجومية. بدأ الهجوم على 3 نقاط: تل الحنش والـ 14 والعبودية. استمر الهجوم قرابة الـ20 يومًا. كانوا يحاولون تحقيق اختراق للوصول إلى جوسيه ثم التغلغل نحو القصير. بعد 25 يومًا نفذت المقاومة عملية التفافية من جهة اللواء 67 الدبحسية ثم جمراح ثم الحمرا، ثم جب جراح، وسيطرت على كامل هذه المنطقة.
الأهمية الاستراتيجية لمدينة القصير
وتعود أهمية مدينة القصير بأنها يمكن السيطرة منها كليًا على ريف دمشق الغربي والشمالي الغربي، وكذلك السيطرة على طريق التواصل الحيوية بين دمشق وحمص، وبين دمشق والساحل السوري ذات الثقل العلوي. وقد جاء تحرير القصير بعد إنجاز خطوات عسكرية في الداخل السوري تمثّل بشقّ طريق آمنة ومباشرة بين دمشق ومدينة حلب شمالًا، طريق عسكري لا علاقة له بالطريق الدولي السريع الموجود أصلًا بين المدينتين، تمرّ كلها في مناطق خاضعة للنظام. وتتجنّب الجيوب القليلة المتمرّدة والتي ما زالت واقعة بين المدينتَين السوريّتين الأساسيتَين. علماً أن عدداً من هذه الجيوب قد تمّت “معالجتها” نهائياً أثناء شقّ الطريق العسكريّ الجديد. وفي وقت متزامن، تمّ استحداث طريق عسكريّ أخر بطول نحو 20 كيلومتراً، يربط بين حلب ومطار حلب. وقد شارفت طريق ثالثة على الإنجاز بين حلب والمدينتَين الشيعيّتَين المحاصرتَين من قبل “جبهة النصرة”، النبل والزهراء في ريف حلب أيضاً، ومنهما إلى مطار “منغ” القريب من الحدود السوريّة-التركيّة. هكذا، تتكشف خطوط النقل والإمداد الكامل، بشرياً ولوجستياً وتسليحاً وعتاداً، وقد باتت مؤمّنة بين كافة المناطق السوريّة الرئيسيّة الخاضعة للسلطات السوريّة. وهو ما ستبدأ ترجمته بعد سقوط القصير في أكثر من اتّجاه. أولاً السيطرة على ريف دمشق والغوطة الشرقيّة وبالتالي إقفال آخر ثغرة في الحدود مع لبنان، في عرسال. بعدها تصير كل الخيارات ممكنة: الانتقال جنوباً في اتّجاه درعا لإقفال الحدود مع الأردن، أو الذهاب شمالاً وصولاً إلى الحدود التركيّة.
أهم نتائج معركة القصير ميدانياً وإستراتجياً
لقد حققت معركة القصير العديد من الأهداف التي لن يكررها التاريخ وبعض ما كُتب هو مجرّد سطر في بطولات هؤلاء المقاومين ولعل أبرز هذه المؤشرات هي: أنّ معركة القصير دفعت بالخطر الإرهابي بشكلٍ كبير بعيداً عن البقاع وكل لبنان، لقد قضت معركة القصير على مشروع الجماعات الإرهابية في المنطقة كما كتب الصحافي المصري الراحل الكبير محمد حسنين هيكل، شكلت معركة القصير الدعامة الأساسية لبقاء الدولة السورية واقفة على قدميها، وشجعت روسيا على الدخول في الحرب بعدما وجدت بعد عامين أن هناك قوة برية يمكن الاعتماد عليها على الأرض. كسرت معركة القصير الكثير من المفاهيم العسكرية والنظريات التقليدية التي تقول أن المدن تُحاصر ولا تُقتحم باتباع المقاومة والجيش السوري استراتيجية الحصار والإقتحام المزدوج عبر ضرب جسم الإرهابيين على رأسهم في قلب تحصيناتهم في الحارة الغربية ما أدى إلى انهيار باقي أطراف المدينة، وأخيراً لقد أفرزت معركة القصير جيلاً من القادة الميدانيين في وحدات المقاومة قادوا معظم المعارك في سوريا والعراق وأماكن أخرى وما زالت بعد أن راكمت خبرة في القيادة والسيطرة تعادل كل تجاربها إبان الإحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان.
ولكن تبقى النتائج الأخيرة على المستوى الإسرائيلي. ذلك أن الاسرائيليّين تابعوا بدقة وعن كثب تفاصيل معركة القصير، من زاوية اهتمامهم بأداء عدوّ شرس لهم، هو حزب الله. وهم عمدوا بكلّ الوسائل المتاحة لا شكّ، إلى رصد كل تفصيل هناك: أعداد القوى المهاجمة وأسلحتها وتجهيزاتها وتكتيكاتها الميدانيّة. لكن النتيجة الأهم إسرائيلياً هي أنّ القصير شكّلت أوّل معركة هجوميّة يخوضها حزب الله، بعد ثلاثين عاماً من اعتماده عقيدة عسكريّة دفاعيّة. وهو ما قد يثير القلق على الجانب الجنوبي من الحدود اللبنانية: ماذا لو صار هذا التنظيم الذي خبرت إسرائيل قدراته الدفاعيّة المذهلة، قادراً على تكرار إنجازاته في الهجوم أيضاً؟ كيف سيكون الاشتباك بين مقاتلين من حزب الله خاضوا بشكلٍ مباشر وقاسٍ العديد من حروب المدن والجبال والأحراج منذ سنوات قليلة جدًّا، وبين جندي صهيوني حديث في الخدمة، لم يعرف حرب المدن والجبال إلاّ في المناورات؟!