حول الخريطة التي تغطّي نصف مساحة الغرفة، تحلّق خمسة شبان، يحكي أحدهم وينصت الأربعة. هو وحده يعرف تلك القرى، يُنصت الأربعة بدهشة، ولا يقطعون له حديثاً، يحكي عن بلدات لم تطأها أقدامهم أبداً، وعن ما هو أبعد، عن فلسطين. يبدو حديثه كحكايةٍ من عالم الخيال، يأنس بها المستمعون، لكنهم يدركون أنها تنتهي حين يفرغ الراوي من الكلام.
“كانت حلماً”، يقول أبو حسن، ثم يعدّد القرى التي كانت ضمن المناطق المحتلّة قبل عام 2000، هو الذي كان حاضراً في الجلسة حول الخريطة أواخر عام 1999، يبتسم بينما يستذكر كيف سأل حينها: “هل يمكن أن يأتي هذا اليوم الذي نمشي فيه في العديسة ونرى فلسطين من هناك؟”.يبتسم الرجل، ويستحضر دفعةً واحدةً كل لحظات الانتصار.
“بلّشنا نفوت عالضيَع الأحد”. يذكرُ اليومَ وكأن ما مرّ على الحادثة هو بضعة أسابيع ليس إلا.
ذاك الأحد، كان أول أيام التحرير، تجمّع عددٌ من أبناء بلدة القنطرة وعزموا على الدخول إلى قريتهم، بدا أن لا شيء سيحول بينهم وبين دخول القرية، وصل الخبر إلى أبي حسن وبعض الرجال من القرى المحررة، توجّهوا نحو الغندورية حيث احتشد أهالي القنطرة، مع أصداء الخبر صار الناس يتهافتون، اندفعوا كسيلٍ نحو الحاجز الحديدي الذي يفصل بين الغندورية والقنطرة.
في تلك الأثناء، وصلت إحدى الملّالات التابعة لقوات الطوارئ “اليونيفيل”، وقطعت الطريق على الحشود.
ضمن الشبان المجتمعين، كان ثمة شابٌ غلبته الحماسة، حين قطعت الملّالة الطريق على الناس، توجّه الشاب نحو دراجته النارية، أخرج منها عجينة TNT متفجّرة، ورماها نحو الحاجز الحديدي، فاقتلعته.
“الحاجز انخلع من محلّه، واللي عم يسوق الملّالة رجع شي كيلومتر لورا من اللبكة”، يذكر أبو حسن المشهد بأدقّ تفاصيله.
هو الرجل الجنوبي الخمسيني اليوم، اختبر مرارة الاحتلال والعدوان شاباً، لم تكن قريته ضمن القرى المحتلّة، لكنّه أدرَك كيف قُطّعت أوصال القرى وحُرِمَ أهل الأرض من الأرض.
“بعد أن انخلع الحاجز، عبرنا، وكنا أول سيارة تدخل، حين وصلنا إلى قلب القنطرة، نظرتُ خلفي فإذا صف السيارات لا يُرى آخره، بين الغندورية والقنطرة وقف شابان وأخذا يوقفان كل السيارات المارّة ويقولان للناس: القنطرة تحرّرت طلعوا طلعوا”.
وهكذا امتلأت القنطرة بالجموع الغفيرة، أقيمت صلاة الظهر تحت قبة السماء، وبعد الصلاة صار الناس يتساءلون: “إلى أين الآن؟”، وقرروا مواصلة طريقهم، “امشوا نحرّر القصير وعلمان”.
وصلت الحشود إلى بوابة القصير، وهي البوابة الشهيرة التي تظهر في المقاطع المصوّرة للتحرير، وهي بوابة صلبة خاصة بقوات “اليونيفيل”، تدافعت الحشود نحوها، أمسكها الشبان وأخذوا يهزّونها حتى انخلعت، ودخلوا.
“صار الناس يسألون بعضهم بعضاً ويجيبون: هلق لوين نكمل؟ على ديرسريان يلا على ديرسريان”.
أكملت الجموع طريقها نحو ديرسريان المحتلّة آنذاك.
هنا، كان الناس قد صاروا جماهيرَ غفيرة، والسيارات بالمئات، والإعلام يواكب العملية، وفي تلك اللحظة، ظهرت الحاجة فاطمة قشمر وهي تردد أهزوجتها “الحمد لله الي تحرّرني”.
على أطراف البلدة، وقف أبو حسن، يتأمّل قرية الطيبة التي ما زالت محتلّة في تلك اللحظة، أهالي الطيبة تمكّنوا من رؤية ما يحصل في ديرسريان، وإذ بخمس أو ست سيارات بينها “فان” تتوجّه من الطيبة إلى ديرسريان، لاستطلاع ما يحصل. أخذ أهالي الطيبة يحتفلون مع الحشود الموجودة، وبعدها تجمعوا مجدداً بنيّة العودة إلى الطيبة قبل الغروب، تجنّباً لمضايقات اللحديين، فإذا بعددٍ من الشباب المندفعين قفزوا فوق “الفان” حاملين الأعلام، فأخذت السيارات تتبع “الفان”، وفي غضون دقائق صارت كل الجماهير في ساحة الطيبة.
في الطيبة، أعلن الأهالي القرية محرّرة، اندفعوا نحو موقعٍ تابعٍ للعدو واقتحموه، ومن الجهة الأخرى، هرَب كل من كان داخل الموقع.
بين الطيبة والعديسة، حاول أحد الأهالي أن يزيل الساتر الترابي بجرّافته، قصفته إحدى طائرات الاحتلال الإسرائيلي، فارتقى شهيداً وغربت شمس أول أيام التحرير.
في اليوم الثاني، توجّه الأهالي نحو بلدة بيت ياحون، التي كانت معبراً، كان الطيران المروحي يحلّق في الجو، والسيارات تملأ الشوارع، قدِم العشرات من العاصمة بيروت ليشهدوا التحرير، وفي هذه الأثناء، بدأ الطيران الإسرائيلي يقصف المحيط.
“رأيت سيدة معها ثلاثة أولاد وتبدو عليها الصدمة، وهي تلوم نفسها على المجيء، كانت قد جاءت وأحضرت معها أولادها ليشهدوا التحرير ثم تفاجأت بالقصف”، يروي أبو حسن.
استمرّ القصف لدقائق ثم توقّف، ومع توقّفه أكملت السيارات تقدّمها. على مدى أربعة أيام، أخذ العدو يتهاوى، وأعراس الانتصار تملأ كل القرى.
في الخيام، كان الأهالي يسطّرون انتصاراً آخر، دخل الأهالي معتقل الخيام الشهير وحرّروا الأسرى، اشتبكت أياديهم بأيدي المعتقلين للمرة الأولى منذ سنوات، وثّقت الكاميرات المشاهد حتى حُفِرت اليوم في ذاكرة كل لبنانيٍ.
يوم 25 أيار، وصلت الحشود إلى بوابة فاطمة في كفركلا، وهي معبر مركزي تحيط به مراكز إدارية تابعة للعدو، دخل الأهالي المراكز وكان ما يزال أفراد من لواء جولاني موجودين، لم ينتظر الأهالي رحيل جنود العدو، وكانوا يقتحمون مراكزهم بينما هم يهربون بعجالة.
هكذا رسم الأهالي المشهد الخالد، يقول أبو حسن لو قرر أهمّ قياديي المقاومة أن يخططوا لمشهد التحرير، لما كان سيخرج بهذه العظمة. يستذكر سؤاله بينما يتأمل القرى الجنوبية، “ثمة حلمٌ ظنّ البعض أنه لن يستطيع أحد تحقيقه.. لكنّنا حقّقناه”.
نحو فلسطين يرمي أبو حسن بصره، صارت الأحلام أقرب، صارت نظرته أكثر طمأنينة. سندخلها آمنين. لدينا يقينٌ بذلك.