حالياً، يجري الإعداد للجولة الثانية من الانتخابات التركية بشكل حثيث من جانب تحالفَي “الجمهور” و”الأمة”، بعد أن مُني الطرفان بخيبة من خلال النتائج التي لم توفر أصواتاً كافية لأي منهما لإعلان الفوز وتولّي سدة الرئاسة. فقد سادت حالة من الإحباط في صفوف المعارضة التركية، بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التي أسفرت عن تقدم الرئيس الحالي رجب طيب إردوغان بفارق خمس نقاط، على الرغم من أن بعض استطلاعات الرأي كان تشير إلى تقدم كمال كليجدار أوغلو.
لا شك في أن استطلاعات الرأي لم تأخذ برأي شريحة واسعة من المجتمع بمختلف توجهاته السياسية، ولم تلحظ الفارق بين الريف والمدن، وراهنت بعد اتهامها الحكومة بالتقصير، على أصوات المناطق التي تعرضت للزلزال. ويمكن الاستنتاج أن بعض المؤسسات القريبة من المعارضة حاولت إثارة الحماس في الجمهور؛ لإعطائه الأمل بحتمية فوز المعارضة. لكن استطلاعات للرأي أخرى أكدت فوز إردوغان، واستبعدت خسارته. فالتوقعات بمعظمها أكدت فوز المعارضة وحصولها على أغلبية ضئيلة في البرلمان، لا تساعدها على تعديل الدستور من أجل إعادة العمل بالنظام البرلماني، لكن النتائج في الانتخابات البرلمانية أتت مخالفة، إذ حصل تحالف “الجمهور” على الأغلبية التي تتكوّن من 323 نائباً، لكن مقاعده تراجعت، وتحديداً حزب “العدالة والتنمية” الذي نال35.4 % من أصوات المقترعين واحتفظ بـ 266 مقعداً برلمانياً، مسجلاً تراجعاً بلغ 7 % لصالح “الحركة القومية” التي كسبت نسبة 10 % من الأصوات وحصدت 50 مقعداً، فيما حقق “الرفاه الجديد” 2.8 % ونال 5 مقاعد برلمانية. في المحصلة، حقق تحالف “الجمهور” نسبة 49.3 % من الأصوات وأغلبية بسيطة في مقاعد البرلمان.
يعود تراجع الأصوات المؤيدة لحزب “العدالة والتنمية”، وإردوغان تحديداً، إلى الأوضاع الاقتصادية والاعتراض على السياسات المتبعة التي أظهرت تراجعاً بعد سنوات من التأييد لم يستغلها إردوغان في الداخل، إذ ركّز على السياسة الخارجية؛ ظناً منه بأنها ستنعكس على الداخل، لكن انعكاسها كان سلبياً.
لا شك في أن لخسارة حزب “العدالة والتنمية” أسباباً أهمّها أنه حزب حكم 21 عاماً، وهناك ناخبون يرون فائدة في التغيير، ولا سيما أن الحزب تراجع في أدائه، وقد تفرّق عنه معظم المؤسسين بسبب الخلافات في شأن السياسات المتبعة مع الخارج والتسلط في الداخل، ومحاولة إردوغان حصر القرارات به، وتنفيذ طموحاته في الحكم من دون الرجوع إلى أصدقاء الأمس. أما حزب “الحركة القومية” فقد استفاد من تراجع أصوات ميرال أكشنار، التي انسحبت من “طاولة الستة” وعادت تحت ضغوط التحالف، ما أضعف قرارها. واستفادت “الحركة القومية” من تراجع أصوات حزب “العدالة والتنمية”. كما استفاد حزب “الرفاه الجديد” من الترشح باسمه، واستطاع كسب أصوات مؤيّدة له، الأمر الذي يؤسس لوجود أحزاب جديدة في البرلمان، أما “الهدى بار” وهو حزب إسلامي كردي ففاز تحت اسم “العدالة والتنمية” للمرة الأولى بـ 4 مقاعد، ما عدّ رسالة إلى الكرد المؤيدين لحزب “الشعوب الديمقراطي”. وكانت التحليلات بمعظمها تؤكد أن التحالف المعارض سيستفيد من القوائم المشتركة، وسيكسب من التحالف الحاكم بعض المقاعد؛ بسبب التماسك بين أحزابه، لكن النتيجة كانت مكسباً لتحالف “الجمهور”. وبذلك، سقط مشروع إعادة النظام البرلماني.
لماذا تنامت الأحزاب القومية؟
الملاحظة الأساسية التي يمكن التعمق في أسبابها هي صعود التيار القومي في الحياة السياسية التركية. فإذا جمعنا الأصوات التي نالها السياسيون القوميون في أحزاب “الحركة القومية” كافة وهي: حزب “الاتحاد الكبير” في تحالف “الجمهور” الحاكم، وحزب “الجيد” في تحالف “الشعب” المعارض، وحزب “النصر” في تحالف “الأجداد” اليميني المعارض، نلاحظ أن هذا التيار نال93 مقعداً، وزادت مقاعده2 %، رغم خلافاته وانشقاقاته، فأحزابه تنتمي إلى الفكر نفسه تقريباً. وإذا ما عدنا إلى العام 2002، فإن أحزابه لم تحصل على مقاعد في البرلمان، لكن ومنذ العام 2007، استعاد حزب “الحركة القومية” برئاسة دولت بهشلي تمثيله البرلماني بنسبة 14.27٪ من الأصوات، وعارض بشدة محادثات السلام بين الحكومة و”حزب العمال الكردستاني” الذي عدّه حزباً إرهابياً، وانتقد بشدة حكومة حزب “العدالة والتنمية” الحاكم، بسبب الفساد والاستبداد. ومع ذلك، عمل حزب “الحركة القومية” مع حزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات الرئاسية لعام 2007، ورفع حظر الحجاب، والانتخابات البرلمانية في حزيران/يونيو وتموز/يوليو 2015. يدعم بهجلي إردوغان وحزب “العدالة والتنمية” علناً منذ عام 2015. تسبب هذا في حدوث انقسام داخل الحزب، تركت على إثره ميرال أكشنار حزب “الحركة القومية” لتؤسس حزب “الجيد” المؤيد لأوروبا. وقد دعم حزب “الحركة القومية” التصويت بـ «نعم» في استفتاء عام 2017، وأنشأ تحالف “الشعب” مع حزب “العدالة والتنمية” في الانتخابات العامة التركية لعام 2018، ويدعم حالياً تحالف “الجمهور” بقيادة حزب “العدالة والتنمية” الذي يقترب من الخط القومي فكراً وممارسة سياسية.
أما حزب “النصر” المنشق عن حزب “الجيد”؛ فقد عزز في السنوات الأخيرة الشعور القومي في ظل الصراع مع “حزب العمال الكردستاني”، وزادت أزمة اللاجئين السوريين من حدة العنصرية، إلى جانب الأزمة الاقتصادية والبطالة، لا سيما بطالة الشباب وتفاقمها، الأمر الذي أجّج المشاعر القومية التركية، إضافة إلى وجود مهاجرين أفغان وعرب، وكان نائب رئيس حزب “الجيد” أوميت أوزداغ قد حذّر من أن تصبح تركيا “دولة شرق أوسطية”؛ بسبب تدفق اللاجئين.
ومنع رئيس بلدية إسطنبول، وهو عضو في حزب “الشعب” الجمهوري، وضع لافتات عربية على واجهات المتاجر. والخطاب الشعبوي والمعادي للاجئين دخل البازار الانتخابي، ورأت الأحزاب القومية أن خطاب التخويف هذا يزيد من شعبيتها الانتخابية. وما صعود أرقام سنان أوغان المرشح الرئاسي سوى مؤشر على صعود الأحزاب القومية التي من المرجح أن تزداد قوتها في ظل الأزمة الاقتصادية المستمرة، وتراجع حزب “العدالة والتنمية”، وما تصريحات سنان أوغان إلا مؤشر على رغبته في تأليف حزب جديد والترشح عن اليمين القومي، بعد أن برزت حاجة الأحزاب الكبرى إلى التحالف مع الأحزاب الصغيرة.