قدّم الباحث معرفةً بالشاعر، ركَّزت، مع إيجازها المكثَّف، على أبرز العوامل الّتي شكَّلت شخصيّته وتجربته الشّعريّة.
في الشّعريّة وقضاياها
“الواقع وشعريّته في شعر محمّد علي شمس الدّين، دراسة تحليلية تأويلية”، كتاب من تأليف داوود مهنّا، صدر عن “دار البنان”. نقدِّم، فيما يأتي، مقاربة له، موضوعها: “الشعرية وقضاياها”، كما تتمثّل به.
يتألَّف الكتاب من مقدّمة وبابَين وخاتمة وقائمة مصادر ومراجع. تعرِّف المقدّمة بالكتاب وقضاياه ومنهجه. ويبحث الباب الأوَّل في الواقع، كما يتمثّل بشعر محمّد علي شمس الدّين، ويتضمَّن ثلاثة فصول، يبحث أوَّلها في الواقع السّياسي، والثّاني في الواقع الثّقافي، والثّالث في الواقع الاجتماعيّ.
ويبحث الباب الثّاني في شعريّة الشّعر الّذي يتمثَّل ذلك الواقع ويمثِّله، ويتضمَّن ثلاثة فصول، يبحث كلٌّ منها في مستوى من مستويات شعريّة الشّعر. وهذه المستويات هي: الإيقاع: العروض والتّنغيم والتّركيب والانزياح. وتركِّز الخاتمة على النتائج التي توصَّلت إليها الدّراسة.
هذا الكتاب، في الأصل، هو القسم الأوَّل من أطروحة أُعدَّت بإشرافي لنيل شهادة الدّكتوراه من المعهد العالي للدّكتوراه، في الاَداب والعلوم الإنسانيّة، في الجامعة اللّبنانيّة، والقسم الثّاني من هذه الأطروحة يبحث في “الواقع وشعريّته في شعر جوزيف حرب”.
الأكثر جدوىً
يبدو لي أنَّ الأكثر جدوى، في الحيِّز المتاح لهذه المقالة القصيرة، ليس عرض محتويات الكتاب، إنّما التّحدُّث عن القضايا الّتي يثيرها البحث في الشّعريّة، وخصوصاً شعريّة الشّعر الّذي يصدر عن الواقع الحياتيّ المعيش ليعادله، ويرى إليه.
1- قضية الشّاعر/النّاقد
هذه قضيّة إشكاليّة، وسؤالها هو: هل يمكن للشّاعر أن يكون ناقداً باحثاً؟ مسوِّغ هذا السّؤال يتمثّل بأنَّ الشّعر فاعليّة حدسيّة، في حين أنَّ البحث/النّقد فاعليّة ذهنية؟ تقدّم هذه الأطروحة إجابة عن هذا السّؤال، فكاتبها، داوود مهنّا، شاعر، أصدر عدداً من المجموعات الشّعريّة المتميِّزة. وتفيد قراءة أطروحته بأنَّه باحث/ناقد منهجيّ متميِّز، امتلك المنهج، في مستويي التّنظير والتّطبيق، وتمكَّن بكفاءة من تحصيل المعرفة من مظانِّها وتقديمها إلى القارئ معرفةً علميّة واضحة مقنعة. وكان لحِسّه وذوقه المرهفين، بصفته شاعراً، أن يصل إلى “لَطائفَ” في الشّعر لا يصل اليها المنهج البنيويّ الّذي اعتمده. كما أنَّه تمكَّن من جعل معطيات حدسه النفّاذ، وهي معطيات انطباعيّة، مدخلاً لتحصيل المعرفة العلميّة وتقديمها، بصفتها معرفة مقبولة من الاَخر ومقنعة له، فوصفُ الدَّالّ/النّصّ، وتبيُّنُ خصائصه، ثمّ تبيُّن مدلولات هذه الخصائص، فكشفُ القناع عن المعنى الخفيّ، خصائصُ تجعل دراسته تحليليّة من نحوٍ أوّلَ، وتأويليّة من نحوٍ ثانٍ، كما يدلُّ العنوان الثّاني لها.
إن قرأنا مدخل الكتاب، على سبيل المثال، نلاحظ أنَّ الباحث قدَّم معرفةً بالشاعر، ركَّزت، مع إيجازها المكثَّف، على أبرز العوامل الّتي شكَّلت شخصيّته وتجربته الشّعريّتين: نشأة في غياب الأب والأم، وفي رعاية العمّة والجدّ، وفي فضاء الإيمان والتّراث الشّفويّ، والمكتبة العامرة بالكتب، وخصوصاً كتب التّراث، والمجالس العامليّة، ودراسة توافر فيها العلم واللّغة الفرنسيّة والأدب والفنون الأخرى من رسم وموسيقى.
2- غياب النّقد
في هذا السياق النقدي، يثير البحث قضية غياب النقد الأدبي. وإن كان المقام لا يتسع للتفصيل في شأن قضية كبرى ومتشعّبة مثلها، فإننا لا نَغفل عن الكلام على ما تبيّنه مهنّا في هذا الشأن، وهو أنَّ محمد علي شمس الدين رأى أنَّه لم يجد الناقد الأدبي القادر على مواكبة الشعر العربي بصورة عامة، وشعره على نحو حاصّ، مثل ابن جنِّي، الذي قال المتنبي عنه إن “ابن جنِّي أعلم بشعري منِّي”. يبدو لي أنَّ النفي هو أسهل الأمور، لكنه أخطرها، فالكتب التي تبحث، في هذه القضية، تملأ رفوف المكتبات، كما أن البحث فيها يحتاج إلى كتب تملأ رفوفاً أخرى، والدليل، على سبيل المثال، أن ليس من غياب لنقد الرسائل. والأطاريح، وهذه الأطروحة واحدة منها، التي تبحث في شعر محمد علي شمس الدين، كثيرة.
3- جدليّة العلاقة بين الواقع والشّعر
هذه قضية إشكاليّة كذلك، وأسئلتها كثيرة، منها: هل ينقل الشّاعر الواقع كما هو؟ وعمَّ يصدر الشّاعر في شعره؟ هل يصدر عن معرفة مسبّقة حاضرة في ذهنه، أم عن تجربة حياتيّة معيشة وشعريّة، في الوقت نفسه، تلد لديه حالة تُمْلي النّصّ الشّعريّ؟ وهل يطابق هذا النّصّ الواقع، أم يغايره ليعادله ويكشفه، ويرى إليه؟
في هذا الكتاب بحث في هذه الإشكالية، وعرض لآراء نقاد وشعراء، وخلوص إلى ما مفاده: إنَّ الواقع، الّذي يتمثّل بالشّعر، واقع شعريّ، يصدر عن الواقع المعيش، بصفته مرجعاً له، والواقع الشّعريّ هو الواقع كما يراه الشّاعر من منظوره، يمثّله لغة شعريّة معادلة لمرجعها، كاشفة له، رائية إليه. وهذه اللّغة الشّعريّة تتّصف بخصائص لغويّة نوعيّة هي الدَّال بلغة النّقد البنيويّ، تنطق بدلالة، أو دلالات، هي المدلول بلغة ذلك النّقد نفسه، الأمر الذي يعني أنَّ أمام النّاقد الحصيف مهمَّتين: أولاهما وصف الدَّال، وثانيتهما تبيُّن الأسرار الّتي يخبِّئها هذا الدَّال، وهي المدلول، أو المدلولات.
هذا هو الشّعر. أمَّا الكلام الموزون المقفَّى، والّذي ينقل الواقع كما هو، أو يُسطِّر المعاني الحاضرة في الذّهن مسبّقاً، فهو ليس شعراً، وإنَّما نظْم يقدِّم معرفة مباشرة تفتقر إلى الشّعريّة.
الشعريَّة poètique = poetics.
ترجم العرب القدماء كتاب أرسطو “فنَّ الشعر” إلى “بيوطيقيا” (ترجمه أبو بشر، متَّى بن يونس، المتوفَّى سنة 328 هج). وفي العصر الحديث، تعدَّدت ترجمات العرب، لهذا المصطلح، ومن هذه التّرجمات: بيوتيك، بويطيقيا، الإبداع، علم الأدب، الأدبيَّة، علم الشِّعر، نظريَّات الشِّعر، فنُّ الشِّعر، الشّعريَّة. والمصطلح الأخير هو الّذي شاع لدى الباحثين، في هذا الشّأن.
في تاريخ هذا المصطلح، المعروف أنَّ أرسطو، في القرن الرّابع قبل الميلاد، سمَّى كتابه الّذي يعرِّف الأنواع الأدبيّة، ويصنِّفها، ويتحدَّث عن عناصرها المكوِّنة، “البيوطيقيا”، أي الشّعريَّة. وضع أرسطو، في هذا الكتاب، نظرية للشِّعر السّائد في عصره، وهي: التّراجيديا = المأساة والملحمة. استقى هذا الفيلسوف نظريّته من نماذج شعريّة قام بدراستها، وخلص إلى أنَّ الشّعر، والفنّ عموماً، محاكاة للأشياء والأفعال الإنسانيّة، من نحوٍ أوَّل، يعني ما يحدث، ومحاكاة متخيَّلة من نحوٍ ثانٍ، يعني ما يُحتمل أن يحدث.
بقيت الكتابات، في الغرب، عن الشّعر، تنويعات على ما كتبه أرسطو.
ونجد، في التّراث العربيّ، نصوصاً تميِّز “علم الشّعر” من العلوم الأخرى، كما لدى الجاحظ (159 – 255 هج)، الّذي قال إنّه لا يجد هذا العلم إلّا عند “أدباء الكتاب”، وليس عند النّحويّين والبلاغيّين والمؤرِّخين. كما نجد لدى الفارابي (260 -339 هج)، وابن سينا (ت. 427 هج) وابن رشد (520–595 هج) وحازم القرطاجني (ت. 684 هج)، استخداماً لمصطلحات دالَّة على الأدبيّة والشّعريّة، منها: الخُطبيَّة والأقاويل الشّعريَّة والشّعريَّة. غير أنَّ مصطلح الشّعريّة لم يكن مصطلحاً شائعاً في النّقد العربيّ القديم. والجدير ذكره، في هذا الشّأن، هو أنَّ النّاقد العربيّ حازم القرطاجني، لدى بحثه في الأقاويل الشّعريّة، رأى أنَّ النّصّ الشّعريّ، يتضمّن أربعة عناصر، هي : 1- ما يرجع إلى القول نفسه. 2- ما يرجع إلى القائل. 3- ما يرجع إلى المقول فيه. 4- ما يرجع إلى المقول له. هذه العناصر الأربعة رأى رومان جاكوبسون أنّها وظائف خطاب الاتّصال، وأضاف إليها وظيفة خامسة هي السَّنَن، أو الشّيفرة.
والفارق بين القرطاجني وجاكوبسون، هو أنّ الأخير استخدم مصطلحات مغايرة هي: الرّسالة، المرسِل، السّياق، المرسَل اليه. وفي حين استخدم القرطاجني مصطلح “العمدة” للدّلالة على وظيفة القول نفسه، استخدم جاكوبسون مصطلح الوظيفة الجماليّة المهيمنة للنّصّ الشّعريّ. كما وضع العرب نظريّة عمود الشّعر، الّتي تتضمَّن عناصر الشّعريّة، كما راَها كثير من نقّادهم.
في العصر الحديث، يعيد الباحثون استخدام مصطلح الشّعريّة إلى المدرسة الشّكليّة الرّوسيّة (1915-1930)، ثمّ تداوله كثير من الباحثين، منهم رومان جاكوبسون وجان كوهين وتزفستيان تودوروف. تعدَّدت مفاهيم هذا المصطلح، ويمكن التّحدّث عن أربعة مفاهيم، يخصُّ كلُّ واحدٍ منها نوعاً من أنواعها، وهذه الأنواع هي:
1- النّظريّات الشّعريّة، علم الشّعر، قواعده وقوانينه.
2- الشّعريّة النّصّيّة، أي خصائص النّصّ الشّعريّ النّوعيّة الّتي تجعل منه شعراً، والخصّيصة الشّعريّة هي الانزياح عن معيار هو قانون اللّغة، ويجب أن يكون هذا الانزياح جمالياً.
3- الشّعريّة التّجريديّة، أو الفلسفيّة، أي البنية الكّلّيّة الثّابتة للشّعر، المفتروض بها أن توجد في كلِّ نصٍّ شعري. وكلُّ نصٍّ شعريّ إنّما هو تجلٍّ من تجلِّياتها. يوجَّه نقد إلى هذا النّوع من الشّعريّة هو: ما مصدرها؟ هل هي كائن ميتافيزيقيّ سابق في الوجود لأيِّ نصّ، ومنفصل مستقلّ؟
4- الشّعريّة العامّة، وهي الخصائص الّتي تميِّز الإبداع الشّعريّ والنّثريّ والفنِّيّ، وكلّ ما هو جميل بصورة عامة.
تحدَّث داوود مهنّا عن الشّعريّة في مقدّمة كتابه، وفي مقدّمة الباب الثّاني، فأرَّخ لها، وأشار إلى تعدُّد مفاهيمها، وعرَّفها، وفصَّل في تعريف نوعها موضوع دراسته، وهو “الشّعريّة النّصِّيّة”، وتعني أنَّ موضوع التّحليل والتّأويل، في أطروحته، هو اللّغة الشّعريّة، أي بنية النّصّ الشّعريّ الصّوتيّة – الدّلاليّة، أو نظام العلاقات اللّغويّ الشّعريّ.
وتحديد موضوع الدّراسة مهمَّة أساس من مهمَّات أيِّ باحث، ونهض مهنّا بأدائها كما ينبغي له.
موسيقى الشّعر بين العروض والإيقاع
يبحث مهنّا في هذه القضيّة لدى بحثه المستوى العروضيّ الإيقاعيّ. كما في أيِّ بحث منهجيّ، يعرِّف مهنّا الإيقاع لغةً واصطلاحاً، ويتحدَّث عن أهمّيّته في تكوين هويّة الشّعر، وعن كثرة الرّؤى إليه واختلافها، وكونه كان ولا يزال موضع جدل، ثمّ يتحدَّث عن النّغم في الموسيقى وفي الشّعر.
وبعد أن يستوفي البحث النّظريّ والتّاريخيّ ينتقل إلى الدّراسة النّصّيّة، موضوع دراسته. ما يثير الإشكال، وما يجب التّوقّف عنده، ثنائيّة تتمثل بما يأتي: يقول مهنّا، من نحوٍ أول: ربط النّقد العربيّ القديم بين مفهوم الإيقاع ومفهوم الوزن، ويستشهد بقول ابن سينا: “إنَّ الشِّعر هو كلام مخيَّل مؤلَّف من أقوال متساوية موزونة، أن يكون لها عدد إيقاعي…” (ص. 174). ويرى، مستشهداً بقول علي زايد عشري، أنَّ الوزن “يمثل الجانب الكمّيّ، ويشكّل المدخل الجماليّ الأوَّلي الّذي يضطلع بوظيفة التّنظيم الشّكليّ في النّصّ الشّعريّ، ولولاه لتقوَّض البناء الشّعريّ وتهدَّم”. ويضيف: “وللوزن دور في تفجير الطّاقة الدّلاليّة والإيحائيّة للّغة” (ص. 175). ويقول، من نحوٍ ثانٍ: “إنَّ الإيقاع الّذي سيتناوله البحث… هو الإيقاع الّذي يتشكّل من الموسيقى الخارجيّة المؤلَّفة من الأوزان الشّعريّة المعروفة، ومن القافية” (ص. 174).
السّؤال الّذي يُطرح هنا هو: كيف تكون موسيقى الوزن المرتبط بالإيقاع، والمؤلِّف كمّا النّصّ والمضطلع بتنظيمه الشّكليّ والمفجِّر الطّاقة الدّلاليّة والإيحائيّة للُّغة، موسيقى خارجية!؟ ومن أيِّ مصدر خارجي جاءت هذه الموسيقى؟
في الختام، نقول: بَدَهيّ ألّا تستطيع هذه المقالة القصيرة الكلام على جميع القضايا التي يثيرها البحث في شعرية شاعر كبير، مثل محمد علي شمس الدّين، الّذي أثرى التّراث الإبداعيّ العربيّ بروائع خالدة، وحَسْبنا أن أثرنا قضايا جديرة بالتّداول والنّقاش.
عبد المجيد زراقط