الميادين
قال رئيس الولايات المتحدة الأسبق، باراك اوباما ذات مرة: “منذ أن انكببت على قراءة أعمال مارك توين، صار فهمي لأميركا أفضل من ذي قبل”.
بعد قرنٍ على رحيله، ما يزال “أبو الأدب الأميركي”، كما وصفه الروائي ويليام فوكنر، يُعَدّ بوابة لفهم عوالم الولايات المتحدة في زمنه، كما أنّ آراءه ومواقفه وبعض كتبه ما تزال تثير جدلاً، وتجدّد النقاشات في موضوعات مثل العنصرية والاستشراق ولقاء الغرب والشرق.
يُصنّف أدب توين اليوم ضمن الفلكلور الأميركي، ممثَّلاً تحديداً بروايتيه الشهيرتين “توم سوير” و”هكلبري فن”، بالإضافة إلى ما تبعهما، مثل “توم سوير خارج البلاد” و”المحقق توم سوير”، إلى جانب “الأمير والفقير” وبضعة قصص قصيرة. وإن بدت هذه الأعمال موجَّهةً إلى اليافعين بدرجة أولى، إلا أنّها ما تزال تفتن الكبار أيضاً، لأنها تجمع بين ما هو سردي وما هو نقدي. يشبّه المهتمّون بسيرة مارك توين (1835-1910) ما تركه من وثائق وصور لنفسه ووقائع حياته وسلسلة رحلاته بجبال الهيمالايا، لضخامتها وتشابكها وتنوّعها، إلى درجة أنّه يتعذّر الإمساك بها كلّها.
من الملاحة إلى الأدب
ترجم سعيد رضوان حران السيرة الذاتية القصيرة التي تركها مارك توين، وصدرت عن “مشروع كلمة” في العام 2014.
يضع توين في اعتباره عند كتابته السيرة، كما يذكر في مقدّمته، أنّه يتحدّث إلينا من وراء القبر، ولذا بدا له أنّ بإمكانه التحدّث بمطلق الصراحة والحرية، كما لو كان يكتب رسالة غرامية. على الطرف الآخر، نُشرت سيرة توين في عدّة مجلّدات باللغة الإنجليزية في العام 1912، بالإضافة إلى ببليوغرافيا لأعماله.
لا يتطرق توين إلى أيٍّ من أعماله الأدبية في سيرته المُترجَمة، بل يكتفي بذكر وقائع عائلته؛ أبيه وأمه وأخوته، ثم زوجته وبناته، ويؤرخ بحسرة لموت شريكة حياته وابنتيه.
أما عن اسمه الأدبي الذي اختاره، مارك توين، فيقول إنّه يعني “قامتان”، وهما تساويان 12 قدماً، إذ كان النوتي في نهر المسيسيبي يقول “مارك توين”، ليعلن عن عمق الماء.
كان صامويل لانجورن كليمنس، وهو اسم توين الحقيقي، الابن السادس بين 7 أبناء لأحد التجار في فلوريدا. في سنته الرابعة انتقل أبوه إلى هانيبال في ولاية ميسوري، وهو ميناء يقع على نهر المسيسيبي. ألهمته هذه المنطقة كتابة روايتيه “توم سوير” و”هكلبري فن”. ناقش توين أوضاع العبيد ودافع عنهم في كتاباته، إذ كانت ميسوري تشتهر بـ”مدينة العبيد”.
بعد موت أبيه في العام 1847، تعلّم توين الطباعة، وبدأ العمل منضِّداً وكاتباً للمقالات في العام 1855. في الـ18 من عمره، عمل مطبعياً في نيويورك وفيلادلفيا وسانت لويس، فيما كان يرتاد المكتبات العامة مساءً، قبل أن يرجع إلى ميسوري في الـ28 من عمره.
عمل توين ربّاناً لإحدى السفن التي تقطع نهر المسيسيبي، بدءاً من العام 1859، وذلك بعد أن درس الملاحة. اهتمّ بعلم النفس، بعد تحقق الحلم الذي شاهد فيه وفاة أخيه هنري قبل شهر من حدوثها، وكان أحد مؤسسي “جمعية علوم الغيبيات”، وتوقف عن العمل كربان بعد اندلاع الحرب الأهلية الأميركية عام 1861.
اشتهر توين في عالم الكتابة بدءاً من ستينيات وسبعينيات القرن الـ19، أو منذ العام 1867 كما يحدد بنفسه، وهو العام الذي بدأ فيه عمله الصحفي، وعُرِفت له مجموعة من الأعمال، منها “جيم سمايلي وضفدعه الوثاب”، و”رحلة الأبرياء إلى الخارج”، الذي ما يزال يثير جدلاً حتى اليوم. وتُعَدّ روايتاه “مغامرات توم سوير” و”مغامرات هكلبري فن” من أهم الأعمال الأدبية في الولايات المتحدة والعالم.
يقول إرنست همنغواي عن رواية “هكلبري فن”: “يندرج الأدب الأميركي الحديث من كتاب واحد يسمى هكلبري فن، فهو أفضل ما لدينا من كتب، وتنطلق منه أعمال السرد الروائي الأميركي، ولم يبزّه في هذا أحد”.
كتب توين بعد ذلك رواية “يانكي من كونيكتكت في بلاط الملك آرثر”، ونُشِرت في العام 1888، و”آدم وحواء” عام 1893، و”ذكريات خاصة عن جان دارك”، بالإضافة إلى قصص قصيرة ومقالات وأعمال سردية أخرى.
آراء سياسية متبدّلة
يمكن أن نعثر على تناقض صارخ في شخصية توين، عند مقارنة أعماله وكتاباته بتقلّب مواقفه، وعدم انسجام بعض أقواله مع بعضها الآخر.
يُعرف عن توين تبدّل مواقفه السياسية دائماً، فقد دافع عن الإمبريالية ثم هاجمها بشراسة، وأيّد احتلال الفيلبين ثم هاجم ذلك، وصرّح قائلاً: “لقد ذهبنا إلى هناك بهدف الغزو، وليس للإصلاح ونشر الديمقراطية”.
شغل توين منصب نائب رئيس “الرابطة الأميركية لمناهضة الاستعمار” منذ عودته من أوروبا عام 1901 حتى وفاته، وتصدّى لتجارة جلب الرقيق من القارة الأفريقية، كما شارك في المنظمات المطالبة بحقوق الإنسان، وقال: “أنا في صف الثوار دوماً، فما من ثورة إلا وقامت لدفع الظلم والعبودية والتعسف الممارس ضد الشعوب”، بالإضافة إلى تأييده الحركات النسائية وخطاباته في الدفاع عن حقوق المرأة، ولا سيما حق التصويت.
وقف توين ضد المنظمات الدينية المتطرفة، وضد البعثات التبشيرية إلى أفريقيا وآسيا، التي مهدت لاستعمار دول تلك القارتين، وكتب: “لو أنّ المسيح كان بيننا الآن، فالشيء الوحيد الذي كان سيفعله هو ألّا يكون مسيحياً”.
الرحلة إلى فلسطين: سخرية عامة أم استعلاء خاص؟
في العام 1869، صدر كتاب توين “رحلة الأبرياء إلى الخارج” أو “الأبرار في الغربة”، وقد ترجمه عبد الباقي بركات سنة 2013 تحت عنوان “رحلة الحجاج إلى الأرض المقدسة”.
تذكر صحيفة “هآرتس” أنّ رئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو ، حمل معه فقرتين من هذا الكتاب سنة 2009 لعرضها أمام الرئيس الأميركي آنذاك، باراك أوباما، كي يقنعه بزيف الحق الفلسطيني في الأرض المحتلة، باعتبار أنّ تلك البلاد كانت مهجورة وقتها.
يسجّل توين في كتابه وقائع رحلة قام بها مع مجموعة من الحجاج إلى الأرض المقدسة، مروراً ببعض بلاد أوروبا وآسيا وبلاد الشام، ثم العودة إلى نيويورك. عكست أفكار توين بعضاً من التصورات التي كانت شائعة في الغرب عن الأراضي المقدسة. كما أنّ مجمل الصور التي قدمها عن بلاد الشام عموماً، وفلسطين خصوصاً، كانت بالغة السوء، وفيها سخرية وكراهية وتصوير كاريكاتوري للناس، لذا حنق النقاد والمترجمون العرب على هذا الكتاب.
أما الباحث والمؤرخ تيسير خلف فيذهب إلى رأيٍ آخر، إذ يقول: “كانت هذه الرحلة تجربته الأولى في الكتابة الساخرة، حين رافق مجموعة من “جمعية الأصدقاء” الدينية المتشددة، المعروفة باسم “كويكرز”، في رحلة حجّهم الطويلة إلى الأراضي المقدسة، وقد أشبعهم طوال الرحلة سخرية، وأطلق عليهم اسم “الأبرار” أو “الأطهار”، وكان يقصد بذلك معنى السذج، ونشر مقالاته في صحف أميركية عديدة، حظيت باهتمام كبير شجعه على جمعها في كتاب في ما بعد. وقد ترجم هذا الكتاب عدة ترجمات إلى العربية، وبعناوين مختلفة، وتصدّى الكثيرون لانتقاده في دراسات كثيرة لم تتعاطَ معه ككتاب ساخر بالدرجة الأولى، بل بوصفه كتاباً عنصرياً يمثل الاستعلاء الأميركي والغربي على بلدان الشرق”.
ويضيف خلف أنّ توين :”لا يرى الأمور بعين رحالة مستكشف يسعى لنقل صورة أقرب للحقيقة عن أوضاع البلدات التي يقصدها، بل بعين أديب ساخر يجنح للمبالغة، لا يشغله سوى نقل المظاهر الغريبة الخارقة للعادة، والمقززة في أغلب الأحيان. واللافت أنّ سخريته لا تشمل المسلمين فقط، كما يوحي بذلك بعض الدارسين، ولا هي ناتجة عن نزعة صليبية، كما يزعم آخرون، وإنّما هي نظرته الساخرة إلى المدن، بمعزل عن انتمائها الديني، فهو سخر من الإيطاليين ومدنهم، ومن اليونانيين وبلادهم، تماماً كما سخر من إسطنبول وبيروت ودمشق والقدس”.
تجدر الإشارة إلى أنّه على الرغم من ريادة مارك توين في الأدب الساخر، إلا أنّه كمن خلف هذا الغطاء إنسان كئيب تراوده رغبة في الانتحار، بحسب ما كشفته وثائق ومقالات ورسائل جديدة له، عثر عليها باحثون في جامعة بيركلي في كاليفورنيا.