الخياطة والنجارة والسكافة..

لبنانيون يُحْيون مهناً بعد تراجع مداخيل أصحاب الشهادات

شكّلت مهن عديدة ملاذاً لجأ إليه العديد من الناس علّهم يخففون من وطأة الأزمة، علاوةً على التوجه نحو تلبية حاجة السوق التي تبدلت في ظل المتغيرات التي طرأت على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية

2023-06-06

لم تكن ناريمان تعلم أنّها ستعود مجدّداً إلى فتح باب محل الخياطة الذي تملكه في منطقة النويري بعد ثلاث سنوات على إقفاله. ففي عام 2018، تركت ناريمان مهنتها كخياطة، بعدما وجدت أنّ هذه المهنة لا تكسب دخلاً يتماثل مع التعب والجهد اللذين تتكبّدهما يومياً خلف ماكنيتها الصغيرة. “قلبت الأزمة الموازين والأحوال”، تقول ناريمان متحدثة كيف عادت إلى مهنتها هذه مجبرة في عام 2021، وذلك بعد أن استفحلت الأزمة الاقتصادية، وخلفت أوضاعاً مالية واقتصادية صعبة فرضت على المواطنين تحديات جديدة، ونمطاً مختلفاً في العيش.

“هذه المهنة انتعشت بالفعل، ولكن من عمق أوجاعنا وأوجاع الناس” تقول ناريمان. وتضيف: “نحن متعبون من سوء الأوضاع، لذا قررت العودة إلى مهنتي كخياطة لأجني ما أجنيه من قوت يومي”.

لا تخفي ناريمان أن عدد زبائنها تضاعف في ظل الأزمة، “قلة قليلة من الذين أعرفهم يستطيعون اليوم شراء بنطال جديد واحد، ويعمدون إلى تصليح المهترئ أكثر من مرة”.

مهنة الخياطة هي واحدة من تلك التي لم تكن في واجهة المهن التي يقبل اللبنانيون على مزاولتها بشكلٍ لافت، على غرار مهنة التعليم مثلاً. لكن، بعد عام 2019، شكّلت مهن عديدة ملاذاً لجأ إليه العديد من الناس علّهم يخففون من وطأة الأزمة، علاوةً على التوجه نحو تلبية حاجة السوق التي تبدلت في ظل المتغيرات التي طرأت على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية.

مهن الأزمة تنشط في سوق العمل 

“قبل الأزمة الاقتصادية، كنت أرفض تصليح بعض الألبسة بسبب حالتها التي يُرثى لها، أمّا اليوم فأغلب الطلبات التي تأتيني هي لألبسة بالية جداً لا يمكن تصليحها أصلاً، يقول الخياط قاسم الذي يعمل في إحدى المناطق الشعبية في الضاحية الجنوبية للعاصمة اللبنانية بيروت. ويؤكّد قاسم أنّه بات معروفاً أكثر اليوم كخياط في المنطقة التي يفتح فيها محله لأنّ “الفقر هنا هو الطاغي”.

“الناس في هذه المنطقة باتت تشتري الثياب من محال الثياب المستعملة، وتأتي بها للخياط لتصليحها”. هذا ما روته، بدورها، الخياطة سمر التي أكدت أنّها اضطرت أيضاً إلى رفع تسعيرة تصليح الألبسة بعد انهيار العملة، إذ تتراوح تسعيرة تقصير الثياب بين 70 إلى 80 ألف ليرة بينما كانت تتقاضى 5000 ليرة سابقاً على القطعة نفسها.

تقول سمر إنّ عملها اليوم تضاعف، فالناس تفضل أن تدفع 100 ألف ليرة أو 150 ألفاً لتصليح قطعة الثياب القديمة بدل أن تشتريها جديدة بسعر لا يقل عن مليون ليرة لبنانية .”ثمة أشخاص يعمدون إلى تصليح ألبسة أطفالهم، لتناسب الأطفال الجدد الذين يولدون في العائلة” تضيف سمر.

كما الخياطة وتصليح الألبسة، راجت في الآونة الأخيرة، وتحديداً منذ اشتداد الأزمة وارتفاع أسعار البضائع، مهنة تصليح الأحذية.

فليس بعيداً من محل سمر في منطقة المريجة في الضاحية الجنوبية لبيروت، ثمة محل صغير لتصليح الأحذية، يعمل فيه الإسكافي عباس منذ ساعات الصباح الأولى حتى آخر النهار لتلبية الطلبات الإضافية التي تأتيه يومياً.

يقول عباس إنّ عمله يشمل تصليح الأحذية والنعال وصبغها وتنظيفها، وتصليح الحقائب النسائية، معبّراً أن وضع مهنته اليوم بألف خير بعدما زاد إقبال الناس على تصليح الأحذية بنسبة تصل إلى 15 %، “بمن فيهم الأغنياء أو ميسورو الحال الذين باتوا يأتون إلى هنا لتصليح أحذيتهم”. يوضح عباس مؤكّداً أن كلفة خياطة الحذاء الواحد تتراوح بين دولار ودولار ونصف،فيما غدت تكلفة شراء حذاء جديد متوسط الجودة نحو 15 أو 20 دولاراً.

ويحكي عباس أنّه يشهد، في المقابل، إقبالاً على فتح محال تصليح الأحذية؛ لأنّها باتت من المهن المطلوبة في سوق العمل.

هذا ما يحكي عنه الإسكافي محمد الذي يعمل في منطقة البقاع، مشيراً إلى أن عديداً من الشباب باتوا يقصدونه لتعلم المهنة، بعدما نشطت في الآونة الأخيرة. ويضيف قائلاً: “لبعدنا عن المدينة أيضاً، فإن أسعار الأحذية مرتفعة نوعاً ما، خصوصاً تلك المستوردة، لذا فإنّ الناس باتوا يفضلون تصليح القديم على شراء الجديد المكلف”. يشدّد محمد على أن الناس هنا يقصدونه من مختلف أنحاء المدينة، كما أن زبائن جدداً باتوا يقصدون محله بشكلٍ دوري لتصليح أحذيتهم.

إذاً، بحْث اللبنانيين عن خيارات لتسوية أوضاعهم في ظل الأزمة، ساهم في انتعاش مهنتَي تصليح الألبسة والأحذية، وفي الوقت عينه يسعى هؤلاء إلى توفير بدائل تجنبهم شراء الباهظ من الأدوات الكهربائية التي يحتاجونها في منازلهم.

هذا ما أكده مالكو محال تصليح وصيانة الأدوات الكهربائية. موسى، وهو واحد منهم، أكد أنّه ومنذ استفحال الأزمة وتدهور العملة الوطنية مقابل الدولار ارتفع الطلب على الأدوات الكهربائية المستعملة، بموازاة ارتفاع الطلب على تصليح البرادات والغسالات حتى المستهلكة منها وكثيرة الأعطال.

في حين يكشف علاء، وهو صاحب أحد محال تصليح البرادات والغسالات في بيروت أنّه بات يجني مردوده من هذه المهنة بالدولار، فحتى قطع التصليح باتت تسعر بالدولار أيضاً، مشيراً إلى أنّ كل شيء له تسعيرة مختلفة. “عملنا زاد طبعاً، إذ بات الناس يلجأون إلى التصليح الأدوات المنزلية بدلاً من شراء أخرى جديدة”.

استعادة المهن تمهد لمرحلة جديدة في لبنان

أصحاب هذه المهن يؤكدون أن عملهم اليوم بات حاجة ملحة للمجتمع أكثر من ذي قبل بعد تغير الأحوال الاقتصادية وارتفاع نسبة الفقر بين الناس، وهذا ما يفسر إقبال البعض على هذه المهن مقابل مهن أخرى بدأ يتقلص حيزها داخل المجتمع، خصوصاً بعد انهيار العملة وبالتالي تأثر دخل البعض ورواتبهم، كالأساتذة والأطباء والكادر التمريضي وغيرهم مثلاً. إذ يشير الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين، أنّه ومنذ بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان، غادر بين 500 و600 طبيب ونحو 900 ممرض البلاد قاصدين العمل في الخارج.

كما تشير آخر الدراسات إلى أنّ لبنان غدا يعاني من تراجع الطلب على مهنة التعليم، أي أن مهنة التعليم لم تعد من المهن المرغوبة من الجيل الجديد فالراتب ليس مغرياً في المدارس الرسمية والخاصة على حدٍ سواء، كما بعض الجامعات.

بطبيعة الحال، ثمة تغيرات عديدة أثرت على مهن أخرى غير المهن آنفة الذكر، إذ عزف اللبنانيون عن مزاولتها، فلماذا وما مستقبل مصالح اللبنانيين؟

يؤكد أستاذ علم الاجتماع السياسي والانثربولوجيا السياسية في الجامعة اللبنانية زكي جمعة أنّ طبيعة الأزمة التي يشهدها لبنان منذ عدة سنوات سواء على المستوى الاقتصادي والمالي أو الانهيارالصحي فرضت تغيرات جذرية في طبيعة العلاقات داخل المجتمع اللبناني، وواقع هذا المجتمع، لافتاً إلى أنّ ذلك سيفرض تغيرات جذرية في طبيعة المهن التي يمتهنها اللبنانيون منذ سنوات.

“لا نستطيع القول إنّ هناك مهناً جديدة بل هناك استعادة لمهن سابقة كانت قد أفلت، ولم تعد تندرج ضمن سياق المهن المزاولة في لبنان” يقول جمعة.

ورأى جمعة أنّ اللبناني بشكلٍ عام سيعود إلى ممارسة حياته بطريقة مختلفة عن السابق. وقال إنّ لبنان شهد نمواً في قطاع البناء واسثتمارات أخرى، لكن ذلك تغير لأن حاجة السوق مختلفة كذلك حاجات الأفراد، متوقعاً أن يشهد لبنان استغناء عن عمال أجانب في العديد من الأعمال ليأخذ مكانهم لبنانيون.

هذا ورجح جمعة أن يحدث تغيير في نوعية التعليم، لافتاً إلى احتمالية زيادة الإقبال على التعليم المهني بسبب ازدياد الحاجة إلى اليد العاملة اللبنانية في حال عودة النازحين السوريين والاستغناء عن العمالة الأجنبية.

وخلص جمعة إلى أن الواقع اللبناني هو واقع مختلف، مضيفاً أن هناك تغيرات متعددة وليس تداعيات. كما عدّ ما يحدث من استعادة المهن تطوراً لافتاً، ربما يكون تطوراً إيجابياً يسهم في نهضة اقتصادية مختلفة تساعد في انخراط اللبناني بشكلٍ أكبر كعامل في سوق العمل.

المصدر: الميادين