منذ انفجار الاحتجاجات في 17 تشرين الأول عام 2019 بالتزامن مع قرارات أميركية بتشديد الحصار المالي والاقتصادي على لبنان، ودفعه إلى الانهيار، كان واضحاً انّ الهدف إنما هو احداث تغيير جذري في المعادلة السياسية بما يمكن القوى الموالية للولايات المتحدة من السيطرة على كلّ مفاصل الحكم في سياق خطة لمحاصرة المقاومة وعزلها، ومحاولة نزع سلاحها لا سيما الصواريخ الدقيقة التي أقلقت كيان الاحتلال، وأدّت حسب قوله إلى امتلاك المقاومة أسلحة كاسرة للتوازن، مما عزز من قدرات المقاومة الردعية وحصن لبنان في مواجهة الاعتداءات الصهيونية…
وكان واضحاً انّ الخطة الانقلابية الأميركية، التي كشف عنها المسؤول في الخارجية الأميركية جيفري فليتمان في تقرير أمام لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس، كانت ترتكز إلى جانب تصعيد الضغط الاقتصادي والعقوبات الاقتصادية، ممارسة سياسة الترهيب والترغيب تجاه القوى الحليفة للمقاومة، وخصوصا التيار الوطني الحر، إما لإقصائها عن السلطة وإضعافها، أو لاستمالتها ودفعها للتراصف مع القوى الموالية لواشنطن…
وفي هذا السياق كانت مهمة مجموعات الانجيؤز التصويب على الرئيس ميشال عون، ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، والرئيس نبيه بري، وتيار المردة، ولهذا جاءت العقوبات الاقتصادية ضدّ باسيل، والوزيرين السابقين يوسف فينيانوس وعلي حسن خليل…
لكن كما أظهرت السنوات الماضية، فقد فشلت هذه الخطة في تحقيق أهدافها، ولم تنجح واشنطن في إحداث الانقلاب الذي تسعى إليه، وبدأت المنطقة تشهد تطورات في غير مصلحة السياسة الأميركي، بدءاً من الاتفاق السعودي الإيراني برعاية صينية، وانتهاء بالانفتاح العربي على سورية وحضور الرئيس بشار الأسد القمة العربية رغم الاعتراض الأميركي، فيما فرنسا راحت تسوّق لتسوية في لبنان تقضي بتقاسم السلطة، ترتكز إلى انتخاب الوزير السابق سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية مقابل مجيء نواف سلام رئيساً للحكومة… فشعرت واشنطن انّ الأمور تفلت من يدها، وان نفوذها يضعف، ولهذا تحركت سريعاً لأجل منع حصول المزيد من التداعيات، والتعويض عن نتائج فشلها في منع التحوّلات الحاصلة في المنطقة، بمحاولة فرض انتخاب رئيس في لبنان موال بالكامل لسياساتها، من خلال تسويق المسؤول في صندوق النقد الدولي الوزير السابق جهاد أزعور كمرشح تتفق عليه القوى التابعة للولايات المتحدة، على أن يستدرج التيار الوطني لتأييده تحت عنوان «التقاطع» مع حزب القوات اللبنانية وحزب الكتائب وبعض النواب الذين يدورون في الفلك الأميركي، وذلك لإسقاط مرشح المقاومة والقوى الوطنية الوزير السابق سليمان فرنجية… بما يعبّد الطريق أمام المرشح الذي تدعمه واشنطن، تحت عنوان أنه مرشح توافقي.. لكن بعد أن وجدت واشنطن انّ هناك فرصة ممكنة لتمرير أزعور كمرشح امر واقع، حظي بتأييد التيار الوطني الحرّ، تحركت الدبلوماسية الأميركية، لأجل توفير الدعم له، وفي هذا السياق أوعزت لنواب الأنجيؤز لإعلان تأييدهم لأزعور، فيما قيل انّ وزير الخارجية الأميركي اتوني بلينكن نجح في إقناع ولي العهد السعودي في دعم أزعور مقابل التسليم الأميركي بالمنحى الذي تتخذه السعودية لناحية المصالحة مع إيران والانفتاح على سورية وإنهاء الحرب في اليمن.. وهو ما انعكس في إعلان كتلة اللقاء الديمقراطي تأييد ترشيح أزعور بعدما كانت قد أبلغت الرئيس بري أنها ستصوّت بورقة بيضاء، مما يؤشر إلى تلقيها إشارات دفعتها إلى تغيير موقفها بعد عودة النائب السابق وليد جنبلاط من باريس، ولقاء النائب وائل أبو فاعور مع السفير السعودي وليد البخاري…
هذه التطورات خلطت الأوراق من جديد، وأشرت إلى محاولة فرض انتخاب أزعور كرئيس غير توافقي، ومن خارج ايّ تسوية سياسية تؤمّن إعادة تشكيل السلطة بما يخرج البلاد من أتون الأزمات التي ترزح تحت وطأتها من 17 تشرين الأول 2019، ذلك أنّ ايّ فريق من الأرقام لا يملك أغلبية تمكنه من أن يحكم لوحده، ختى ولو تمكن من الإتيان برئيس من خارج التوافق، لأنه لا يستطيع بعدها تشكيل حكومة أو ممارسة السلطة. وهناك تجارب مرى فيها لبنان اكدت هذا الأمر.
على انّ من يتحمّل المسؤولية في إنعاش الرهان الأميركي على محاولة فرض انتخاب رئيس من خارج ايّ اتفاق أو تسوية سياسية، موافقة التيار الوطني على ترشيح أزعور، بغضّ النظر عن دوافع التيار، إذا كانت مناورة أم جدية، فترشيح أزعور يؤدي فقط الى إطالة عمر الأزمة، لأنّ الفريق الوطني المقاوم المعارض لأزعور باعتباره مرشح تحدّ ومواجهة، يملك قدرة منع انتخابه.. في حين أنّ التيار الوطني وقع في الفخ الذي نُصب له من قبل القوى التابعة للولايات المتحدة، لأنّ أزعور ليس مستقلاً يلتقي مع التيار في رؤيته للإصلاح والتغيير، وفي الموقف من الاحتلال الصهيوني وقضية المقاومة، وإنما هو جزء لا يتجزأ من الفريق الأميركي حيث اختير وزيراً للمال في عهد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة المعروف بارتباطاته بالولايات المتحدة وعدائه السافر ضدّ المقاومة، ولهذا فإنّ أزعور عيّن مسؤولاً في صندوق النقد الدولي الذي تستخدمه واشنطن سلاحاً لفرض الشروط على الدول بهدف إخضاعها للهيمنة الأميركية.. من هنا فإنّ تقاطع التيار مع القوات والكتائب على ترشيح ازعور إنما يصبّ في خدمة الولايات المتحدة والقوى التابعة لها، ويخدم الخطة الأميركية في السعي للإتيان برئيس يدين بالولاء للسياسة الأميركية.. ولأنّ التيار ليس جزءاً من هذه الخطة، لأننا نعرف موقفه المؤيد للمقاومة، فإنه وقع من حيث لا يدري في فخ ترشيح أزعور…
على أنّ الأسئلة التي تطرح في هذا السياق هو:
لماذا استدرج التيار للوقوع في هذا الفخ؟
وكيف قبل باختيار مرشح كان ولا يزال جزءاً لا يتجزأ من فريق الطبقة السياسية الموالية لأميركا؟
وكيف يمكن له ان يبرّر اعتراضه على ترشيح فرنجية، الذي انسحب في الانتخابات الماضية لصالح انتخاب الرئيس ميشال عون، مع العلم أنه كان ضامناً الفوز بالرئاسة.. ويقبل بأزعور الذي غطى إنفاق 11 مليار دولار من قبل حكومة السنيورة من دون معرفة كيف صرفت وأين؟
وهل انّ أزعور التابع لأميركا، أقرب بالسياسة للتيار، من فرنجية المعروف بمواقفه الداعمة للمقاومة والعلاقة مع سورية، وعروبة لبنان وعلاقته بالشرق؟
هذه الأسئلة من الأكيد أنها طرحت في أوساط التيار، عند النقاش بشأن تبنّي ترشيح أزعور، ولهذا كانت موضع سجال وخلاف…
إذا كانت كلّ هذه الأسئلة يعرفها التيار، وهو «تقاطع» مع الآخرين على اسم أزعور ليس لانتخابه وإنما لمنع انتخاب فرنجية.. فقد أصبح الآن ترشيح أزعور من قبل من نصب فخاً للتيار، ترشيحاً جدياً وليس مناورة لترجيح كفة قائد الجيش جوزيف عون، كما قيل في البداية، فإنّ على قيادة التيار الوطني ان تسارع للخروج من هذا الفخ حتى لا تتحوّل إلى حصان طروادة الذي أنعش رهان واشنطن لمحاولة إيصال مرشحهها.. وبالتالي إعادة تصويب موقف التيار ليكون منسجماً مع مواقفه ورؤيته التي لا تنسجم ولا تلتقي في أيّ منها مع أزعور…