في خطاب تنصيبه، أشار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى الأهمية الاستثنائية التي أحاطت بالانتخابات الأخيرة في المنافسة الجدية التي واجهها من معارضة تكاتفت، على الرغم من عدم اتفاقها المبدئي، مع اتجاهات خارجية كان لها دور كبير في تسويق إمكانية وضرورة إسقاطه، عبر ربط ذلك بمصلحة تركيا والشعب التركي.
الخطاب الذي يمكن اعتباره استثنائياً، لرمزيته على الأقل، حدد الاستراتيجية التي سيواجه من خلالها استحقاقات المرحلة المقبلة، إذ عمد إلى وسم المرحلة المقبلة بشعار “قرن تركيا”، الذي ربط من خلاله بين رؤيته لمستقبل تركيا على المستوى الداخلي ومدى فعالية وأهمية موقعها وسياستها الخارجية.
لم يكن التركيز على الواقع الداخلي التركي، من خلال التشديد على ضرورة تخطي الانقسام الّذي سبّبته الانتخابات الرئاسية، وخصوصاً في الدورة الثانية، عرضياً، إذ هدف الرئيس التركي إلى إظهار صورة مختلفة عن ذلك الرئيس الذي رسم لتركيا نظاماً رئاسياً اعتبره الكثير من خصومه تحدياً للتراث التركي الأتاتوركي.
إن تشديده على ضرورة الوحدة والتكاتف وترسيخ الأخوة بين أبناء الشعب التركي كمدخل لحماية المستقبل كان متناقضاً مع توجهاته السابقة في عدم مراعاته منطق الإجماع الذي كان ذريعة تتسلح بها المعارضة لنزع الشرعية عن ذلك التوجه. وفي هذا الإطار، ظهر خطاب التنصيب كأنه انقطاع عن مرحلة سابقة قاد خلالها بلاده لأكثر من عقدين.
وإذا استندنا إلى براغماتية إردوغان، فإن الحديث عن وحدة والتحام الشعب التركي وتركيزه على احتضان جميع أبناء شعبه، بصرف النظر عن آرائهم السياسية أو أصولهم أو عقائدهم أو طوائفهم، لا يدل على قناعة بضرورة الانفتاح على الرأي الآخر، إنما يمكن اعتباره رسالة ضمنية بضرورة ملاقاته في مشروعه والكف عن توجيه الانتقادات إلى شكل النظام التركي، إذ أثبتت الانتخابات شعبية التعديلات التي طرأت على شكل النظام. وبناء عليه، فإن دعوته المعارضة إلى التحلّي بحسّ المسؤولية في ما يتعلق بسلامة الديمقراطية وتأكيده أنه لن ينسى أولئك الذين حاولوا التدخل في الإرادة الوطنية لدى الأتراك عبر أغلفة المجلات، يؤشران إلى قراره الحازم في التصدي لأي محاولة لعرقلة مشروعه تحت مسمى خدمة الأجندات الخارجية.
من جهة أخرى، لا يمكن قراءة ذلك الحديث إلا من خلال رؤية قرن تركيا التي يمكن إجمال أهم سماتها في السعي إلى الاستدامة والتنمية والقيم والقوة والفاعلية والاستقرار. من خلال هذه الرؤية، يمكن ملاحظة اتجاه حزب العدالة والتنمية نحو التركيز على فكرة تعديل الدستور التركي، إضافة إلى التسويق لتركيا القوية وتعميم سيادة القيم باعتبارها ضرورية لمشروع قرن تركيا.
عملياً، يمكن تفهم رؤية الرئيس التركي لضرورة رسم إطار لمشروعه السياسي؛ فبعد أكثر من عقدين على وجوده في السلطة، يصبح منطقياً تقديم رؤية تستهدف تكريس مشروع حزب العدالة والتنمية كإطار حاكم لمستقبل تركيا، بما يعنيه هذا الأمر من إلغاء أو تهميش لأيّ معارضة سياسية، مهما كانت متكاملة على مستوى بنائها النظري.
التركيز على فكرة تركيا القوية الحاضنة لأبنائها وفق قيمها العريقة وضمن مسار التفوق الأخلاقي، والرافضة أي تدخل في شؤونها تحت عناوين تحاول استبدال سياسة الوحدة بالتعددية والاحتضان بالإنكار والتكامل بالاستقطاب والاصطفاف، تؤكد المسار التركي الذي يهدف إلى ربط السياسة الخارجية التركية بالمصلحة والسيادة.
وإذا كان الرئيس التركي قد اكتفى في خطابه بإشارات عامة للتدليل على ملامح سياسات حكومته إقليمياً ودولياً، إذ شدد على عزم حكومته على تعزيز مكانة تركيا وقوتها الإقليمية والدولية، فإن ما كان لافتاً أيضاً أنه لم يتردد في الإعلان عن نيته مواصلة العمل مع جميع الشركاء والأصدقاء لتأسيس نظام عالمي أكثر عدلاً وسلاماً، ثم أضاف أن وجهة تركيا ستكون إلى الشرق والغرب معاً، واستدرك بعد ذلك أن الأهم من ذلك كله هو التوجه نحو الحق والحقيقة والعدالة.
عملياً، لا يمكن الركون إلى هذه المثاليات، إذ تسند الدول سياساتها الخارجية إلى معياري القوة والمصلحة. وبالنظر إلى الموقع التركي على أطراف أوروبا، قرب أوكرانيا وروسيا وعلى حدود المنطقة العربية، يمكن القول إن المكانة والقوة والمكانة التركية لن تتحقَّق إلا إذا استطاع الرئيس التركي أن يؤدي دور الموازن والمستفيد من الأحداث التي تعصف بهذا الجزء من العالم. وفي هذا الإطار، يفترض الإشارة إلى أنَّ من عليه أن يتعلم كيفية التعايش مع تركيا هو ذلك الذي اعتاد، وفق الرئيس إردوغان، أن يتعامل مع تركيا الضعيفة. وبناء عليه، لا تهدف تلك السياسة إلى الافتراق عن أوروبا، إنما تستهدف استبدال الصورة النمطية التي تكرست لدى الغرب حول ضعف تركيا وتبعيتها بصورة أخرى عنوانها القوة والسيادة وتفهم المصالح التركية. وإذا كانت مقاربة الغرب، وخصوصاً الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، لواقع العلاقة مع الرئيس التركي محكومةً لملفات الهجرة والأمن والعلاقة مع روسيا، فإن الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في ولايته الرئاسية الأخيرة لم يكن متعاوناً إلا ضمن حدود مصلحته القومية.
هذا ولم تتأخر اتصالات القادة الأوروبيين لتهنئة إردوغان بإعادة انتخابه، ولكنها من ناحية أخرى، لم تكن بعيدة عن الهدف الحقيقي الذي عبَّر عنه بايدن وشارك أمين عام حلف الناتو ينس ستولتنبرغ في حفل التنصيب من أجله، والمتمثل بحثِّ إردوغان على القبول بعضوية السويد في الناتو ومراعاة الهواجس الغربية.
وأخيراً، على الرغم من العلاقات الغربية، الأوروبية والأطلسية، المعقدة مع تركيا، التي لا يمكن رسمها وفق إطار توافقي بسهولة، يمكن القول إن السياسة التركية تجاه الغرب في المرحلة المقبلة ستبقى صلبة ومشدودة، على أن لا تقطع الخيط الرفيع الذي يجمعها بالغرب، فكل الإشارات السلبية التي ظهرت في السنوات الأخيرة ليست كافية لنتحدث عن افتراق تركي غربي.