العلامة السيد محمد حسين فضل الله
فيما يتعلَّق بموقف الإسلام من استقلاليَّة الأبناء عن أهلهم، لا بدَّ أن ندرس هذه المسألة من الناحية الموضوعيَّة، لجهة تأثيرها أخلاقياً على الصبيّ والبنت، وهو أمر تحدّد وجوده ومستواه الظروف الاجتماعيَّة وما تحتويه من مخاطر فعليَّة، فقد نجد في استقلال الولد (صبيّاً كان أو بنتاً) عن الأهل تأثيراً إيجابيَّاً في شخصيّته، باعتبار أنَّ الاستقلال ينمّي فيه الاعتماد على النفس ويحمله على تحمّل مسؤوليَّة نفسه، ويشعره بأنّه يحدّد مسار حياته، فيستقلّ بالسكن والعمل ليمارس مهمّة تقرير مصيره. فالإسلام في تشريعاته الإلزاميَّة الترخيصيّة يعطي الولد والبنت عندما يبلغان سنّ الرشد، حقّ الاستقلال عن الأب الَّذي كانت الولاية له، فضلاً عن حقّ الاستقلال عن الأمّ التي لا ولاية شرعيَّة مستقلّة لها أساساً على الولد.
حتّى إنّنا نقرأ في الفتاوى الفقهيَّة، أنَّ للولد والبنت في حال البلوغ إذا اختلف أبواهما أو افترقا، الحقَّ في أن يختارا العيش مع أبيهما أو مع أُمّهما أو حتّى في أنْ يكونا مستقلَّين. وليس للأب أو للأمّ أن يضغطا عليهما في أيّ قرار يتَّخذانه، إنَّ الولد البالغ الرَّشيد، والبنت البالغة الرَّشيدة، هما تماماً كأبيهما وأُمّهما، يتمتّعان بحقّ الاستقلال في حياتهما في كلِّ المجالات.
ولكن ربّما يحمل الاستقلال عن الأبوين بعض السلبيات التربويَّة، باعتبار أنّ حياة الولد أو البنت داخل الأسرة قبل أنْ يستقرّا، يشكِّل لهما نوعاً من الحماية من بعض التجارب التي قد يسيء خوضهما لها إلى أخلاقيّاتهما أو إلى أوضاعهما، باعتبار أنَّ عدم خوضهما لأيِّ تجربة سابقة، يجعلهما فريسة سهلة للخداع ولتأثيرات الناس المنحرفين.. ولكنَّ هذا الأمر يمكن معالجته بإبقاء العلاقة بين الأهل وبين الولد، الذَّكَر أو الأنثى، حتّى بعد الاستقلال، بالصورة التي تمكِّن الأهل من حمايتهما من الانحراف أو من الخداع وما إلى ذلك، بحيث لا يكون استقلالهما سبباً في انقطاعهما عن الأهل كما يحدث في الغرب.
إنّنا لا نفرّق من حيث طبيعة الأمور بين أنْ يستقلّ الولد عن أهله بعد أنْ يتزوّج أو قبل أنْ يتزوّج. إنَّ الزواج لا يحقِّق للولد استقلالاً لم يكن له سابقاً، بل هو جزء من استقلاليّته، كما هو الحال بالنِّسبة إلى البنت أيضاً، فالزواج لا يحقِّق لها شيئاً جديداً لجهة استقلالها عن الأهل، إلَّا من حيث ارتباطها بإنسانٍ آخر.
لقد جعل الإسلام الرّشد بعد سنّ البلوغ أساساً للاستقلال، حيث تحدّث عن اليتامى في قوله تعالى: «حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ…»، كناية عن الاستقلال الاقتصادي الذي قد يتبعه الاستقلال الاجتماعي، من دون فرق بين البنت والولد.
ولكنّنا نجد الكثير من الإيجابيَّات في بقاء الولد، والبنت خصوصاً، مع أهلهما، قبل أنْ ينطلقا لتحمُّل مسؤوليّتهما في حياة خاصّة مستقلَّة، فالأسرة تشكِّل حماية ضروريَّة لهما من الناحيتين العاطفيَّة والعمليَّة. إنّ بقاء الأولاد مع أهلهم هو الخيار الأفضل لهم، لجهة ما يؤمّنه من حماية من الانحراف ومن كثيرٍ من نقاط الضّعف.
ولكن لا بدَّ أن نرفق هذه النصيحة بتأكيد ضرورة أنْ لا يتعسَّف الأهل، أباً أو أُمّاً، مع الأولاد، فيفرضا عليهم شخصيّتهما وآراءهما، أو يضطهدا قراراتهم، بل إنَّ على الأب والأمّ أنْ يعاشرا أولادهما على أساس أنَّ الله جعلهم مستقلّين، وأنّ لهم فكراً وإرادة وقراراً في كلِّ شؤون حياتهم، ما يجعلهما لا يتدخّلان إلَّا من باب النصيحة، أو من باب الحبّ الذي يكنَّانه لهم، فيأتي آنذاك الضَّغط عليهم بعنوان عاطفيّ لا يسيء إلى شخصيَّة الأولاد ولا يلغيها.