يتّسم الخطّ العربي بأنّه فنٌّ يقوم على تصميم الكتابة بخط اليد البشرية، للتعبير عن فضاءات شاسعة من الجمال والإبداع، لا سيّما أنّه يتمتّع بميزة إطالة الحروف، وبانحناءات رائعة تحوّلها إلى أنماط جذابة وساحرة ومتناغمة بصرياً وفراغياً. لكنْ في ظل هيمنة العالم الرقمي وتقنيات الحواسيب، يواجه الخطاطون التقليديون منافسة حامية الوطيس، من أجل البقاء في مهنتهم القديمة والحفاظ على سرّها.
في محترفه الشهير في شارع البرازيل، خلف مجلس الشعب، في وسط العاصمة دمشق، لا يزال المؤرّخ والخطاط أحمد المفتي، الذي قارب الـ80 من العمر، يزاول فنّه وأعماله وسط معبده التراثي، المزدحم باللوحات والأحبار وأقلام القصب.
تتلمذ المفتي على يد الخطاط الراحل محمد بدوي الديراني، صاحب اللوحة الشهيرة “يا يحيى خذ الكتاب بقوة”، وهي اللوحة الوحيدة الموجودة في متحف الفاتيكان المكتوبة باللغة العربية. يتحدّث المفتي عن رُقي هذا الفن، مستشهداً بعبارة الفنان بيكاسو الشهيرة، الذي قال “إن أقصى نقطة أردت الوصول إليها في فن الرسم، وجدت الخط العربي قد سبقني إليها منذ أمد بعيد”.
يوضح المفتي أنّه “في البدء كانت الكلمة، وكان الخط وسيلة لحفظ الكلام وتسجيل الأفكار، وقد سأل سليمان عفريتاً من الجن عن الكلام، ليجيبه ريحٌ لا تبقى، قال ما قيُده، قال الكتابة”.
وعن نشأة الخط العربي ومراحل تطوره عبر الزمن، يقول المفتي: “بدأتِ الكتابة منذ 7 آلاف عام قبل الميلاد، عند السومريين والبابليين والفراعنة المصريين، كانت رموزاً لتدوين الأفكار، ثم كانت أبجدية أوغاريت التي وضعت الكلام ضمن حروف عددها 28 حرفاً، الأمر الذي اعتُبِر من أعظم اختراعات الإنسان”.
يضيف الخطاط الدمشقي: “تطوّرت الحروف حتى كانت الآرامية، ثم السريانية بخطها السطرنجيلي، ويُقصد به الخط المفتوح أو الثقيل، ثم الأنباطي، ثم كان الخط العربي الذي حمله التجار القرشيون من بلاد الشام إلى الجزيرة العربية من خلال رحلة الصيف والشتاء”.
رحلة الخط العربي
يلفت المفتي إلى أنّ “الخط العربي تطور إلى أن وصل إلى شكله الحالي، حيث وُلِد في أحضان القرآن الكريم، فكانت الكوفة والبصرة، حيث كانت كتابة المصاحف بخط يابس كوفي من غير نقط ولا شكل، وكانت بداية التطوير في زمن علي بن أبي طالب على يد أبي الأسود الدؤلي، ثم زمن عبد الملك بن مروان على يد أبو سليمان يحيى بن يعمر العدواني البصري ونصر بن عاصم، إلى أن وصل الخط إلى شكله الحالي على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي”.
يرفض المفتي إدخال التكنولوجيا إلى الخط العربي، بل ذهب إلى حد المغالاة في ذلك، بالقول إنّ الحواسيب تنتزع من الخط العربي قيمته الجمالية، ويتابع: “لم أستخدم الحاسوب طوال حياتي، لأنّه يشوّه الخط ويُفقده شفافيته وروحه، حيث يصبح جسماً لا روح فيه، فأجمل الخطوط تلك التي تكتب باليد بشغف وحب، مهما بلغت التكنولوجيا مبلغاً متقدماً”.
اللحاق بقطار التكنولوجيا مع الحفاظ على هوية الخط
لا يتردد محمد زيدان (60 عاماً)، عند التعريف عن نفسه، في إلحاق صفة مصمم الرسومات (غرافيك ديزاينر) بمهنته الأصيلة التي مارسها على مدى 40 عاماً، وهي الخطاط، عازياً السبب إلى متطلبات العصر، لكن بحدود معقولة، إذ يقول: “من المستحيل تجاهل التكنولوجيا وتجاوزها، ومن الذكاء دمج الأصالة مع التطور التقني، وتوظيفه في خدمة كل ما هو قديم ومهدد بالاندثار”.
ويردف: “شخصياً، أستعين بالحاسوب في تعديل وتصحيح بعض الأمور الطفيفة، حسب رغبة الزبون، كإطالة الحرف أو تغيير لونه، لكن بعد الانتهاء منه على الجهاز أُعِيد كتابته بخط اليد من جديد، في نسخته الأخيرة التي أوجدتها على الحاسوب، وذلك اختصاراً للوقت”.
تراجع الذائقة الفنية
يواجه زيدان تحديات عديدة تؤرّق عمله كخطاط، أبرزها انعدام الذائقة الفنية الجماعية، حيث يوضح ذلك بالقول: “في السابق كان الزبون يختار الخط المراد استخدامه مع اسم الخطاط الماهر، أما الآن فكيفما اتفق، لعنة انعدام الذائقة تصيب أصحاب دور النشر والمعارض”. ويروي لنا الحادثة التالية: “فوجئت في إحدى المرات بوصول بطاقة دعوة لحضور معرض خاص بالخط العربي، مكتوبة بواسطة الحاسوب وليس بيد الخطاط، شعرت بالخجل آنذاك”.
ويبيّن زيدان أنّ التحديات المالية أخذت نصيبها من حرفة الخط العربي، وتأثّرت بشكل مباشر جراء الحرب في سوريا، مثلها مثل سائر المهن، فأصبحت الأولوية للقمة العيش. ويشير إلى أنّ “كتابة عنوان بالخط العربي لكتاب أو رواية تستغرق قرابة يومين من العمل، غير أنّ الأجر المادي في حال كانت الجهة محلية يكون متدنياً، بالمقارنة مع حجم الجهد والوقت المستهلكَين”، أما إذا كانت الجهة غير سورية فيكون تمويلها جيد جداً، وعلى نحو منصف للخطاط وخبرته الطويلة”.
الثلث جَد الخطوط العربية وأصعبها
يعد الحبر والورق والقصبة عُدَّة الخطاط وعتاده، وللأخيرة قدسية ومكانة هامة في قلوب الخطاطين، لما تحمله من دلالة صوفية وروحية في تدوين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة.
يشرح محمد زيدان أنواع الخطوط العربية الشائعة، وفي مقدّمتها خط الثلث، الذي يُكتب على 3 مراحل بأداة القصبة، بأقسامها الثلاث من الربع والحد والعرض، وهو جد الخطوط وأصعبها من حيث القوانين والموازين والتنفيذ. ويؤكّد أنّ خط الثلث وصل إلى مرحلة الكمال، إلى جانب الخط الديواني والرقعي والنسخي والكوفي والفارسي، ويحتاج الخطاط إلى سنوات لتعلمه وإتقانه .
وعن الخطوات المتّبعة عند البدء بتنفيذ أي لوحة فنية، يقول زيدان: “في البداية أستخدم الورق الأبيض وأبدأ بتجربة جميع الخطوط لمعرفة أيها أكثر جمالية، فهناك أسماء وعناوين تصبح أكثر سحراً بخطٍّ معين دون سواه، مع مراعاة توزيع الكتل وتوازن الفراغ، وهذا لا يمكن معرفته إلا بالتجريب مع اختيار الزخرفة التي تزيد الخط جمالاً وروعة، بعد ذلك نقوم بعملية التبييض على ورق مقوّى، وهي المرحلة الأخيرة”.
يصف الخطاط أدهم فادي الجعفري (50 عاماً) الخط بأنّه “كتابة الحروف العربية المفردة أو المركبة بقالب الحُسن والجمال، مع زخرفة تُضفي عليه جاذبية وسحراً”.
ويرى الجعفري الذي تعلّم الخط في مرحلة مبكرة من الطفولة، عندما كان في سن الـ8، أنّ إدخال الحاسوب ضرورة حتمية إلى الخط العربي عبر رسم التصاميم الفنية والزخرفات، لكن مع الإبقاء على كتابة الخط باليد البشرية لأنّه أكثر جمالية، فالحروف الآلية جامدة بلا روح، لا تضاهي روعة الحروف التي تكتب يدوياً، والتي تخلق إحساساً بصرياً ونفسياً وإيقاعاً جميلاً.