في فلسطين المحتلة

“صاقل الماس”.. جوانب خفيّة عن محمود درويش

كان محمود درويش جريئاً على المعنى والمبنى معاً، تجريبياً ومغامراً، فلا يهمّه الخروج عن النص، مطوّعاً القافية والوزن ليتماهيا مع الصورة واللغة.

2023-06-17

كان درويش يطمح أن ينهي حياته برواية، “لأن الرواية هي اُمُّ الأدب، فأنت تضمّنها كل ما يلذّ لك ويطيب، تنظم شعراً ونثراً ووصفاً وبديعاً وثرثرة، وفوق ذلك تقيم بناءً هندسياً.

عن مكتبة “كل شيء”- حيفا في فلسطين المحتلة، صدر كتاب “محمود درويش صاقل الماس” للروائي زياد عبد الفتّاح، الكتاب عبارة عن 300 صفحة، فيه مشاهدات انطباعية مليئة بالسرد عن شاعر امتهن الشعر حرفة، ولم يترك مجالاً لأي لعبة سياسية أن تتقاذفه في رياح الأزمات المستعصية التي حلّت بفلسطين وأهلها ومثقفيها…

يرى الكاتب زياد عبد الفتّاح، ” أن محمود درويش يمتلك أخلاق السياسي ويعيش لحظة الما بعد أو الما وراء، قاوم الاحتلال بالثبات الملحمي في الوطن، وعشق بيروت التي أعلن أنه سيحتضنها ويرقّصها ويطوف بها الأماكن”، معتبراً هو الآخر أنه “كلما ابتعد عن محمود درويش يصبح أكثر اقتراباً إلى قلبه وصوته، ويستفتيه ليتمكّن من العبور الصعب لتفكيك شخصيته، فدرويش -حسب الكاتب- شديد الذكاء والفطنة في التعامل مع ذاته كما في إدارة موهبته، لا مثيل له بين الشعراء”…

يقول الكاتب إن محمود درويش “يحب الكشف ويُسائل الحجب أن ترتمي بين يديه، لم يفصل نصّه عنه، هو ما يكتبه، لا يحب العراك الثقافي والنميمة ويهرب من الأجواء غير المريحة… ويعشق كرة القدم الأوروبية -الفرنسية بالتحديد…

كان محمود درويش جريئاً على المعنى والمبنى معاً، تجريبياً ومغامراً، فلا يهمّه الخروج عن النص، مطوّعاً القافية والوزن ليتماهيا مع الصورة واللغة اللتين يطيب له أن ينحتهما نحتاً… لذا، كان متحرراً ومنفتحاً ومحافظاً في الآن نفسه”(ص 212).

وعن كتابته القصيدة يقول عبد الفتاح إن درويش كان يقرأ كل قصيدة جديدة مرة ومثنى وثلاثاً -بحسب قول الشاعر نفسه له” لأنني وأنا أكتب أخطئ أحياناً في القواعد وقد أخطئ في اللغة، وربما في الوزن، أو في العروض، وهذا كلّه لا يجوز

لشاعر أن يقع فيه، هل تعلم يا زياد أنني احتفظ بجوار مكتبي وفي مكتبتي باستمرار بـ”لسان العرب” و”القاموس المحيط” و”الجامع”، وحتى كتاب النحو الواضح للأستاذ النحوي علي الجارم لمراجعة القصيدة قبل أن أقرأها؟ ”

إن السماع يُطرب، والقراءة تُمتع ولكنها لا تُشبع، الأمسية مسرح والقراءة كتاب…

وعن عدم انتمائه إلى أي حزب كان يقول: “أنا شاعر، مهنتي هي الشعر، فلماذا يريدونني أن أشاركهم اقتسام الكعكة؟ سأتركها لهم كاملة”… معتبراً أن بتفرّغه للشعر يجد متسعاً ليمضغ طعامه جيداً، وليشرب قهوته الصباحية على مهل لا يجرحها أو يعكّر صفوها أحد، ويقرأ الجريدة، من دون تسرّع أو استعجال، ويداعب امرأته كما تُحب أن يداعبها، يتفقّدها خلية خلية بأنامل كسولة، لا يقطع عليها رنين الهاتف أو استدعاء على عجل”. (ص 81)

كان يُخفي روحه القلقة، لقد درّب نفسه على الكتمان، لذا لا تجد لمحمود درويش أصدقاء ينكشف أمامهم، سوى القليل الذين اطمأن إليهم…كان درويش مفتوناً ببيت شعر للمتنبي يقول:

“على قلقٍ كأن الريح تحتي

أحرّكها يميناً أو شمالاً”…

وعن رأي محمود درويش في الرواية يقول الكاتب:

إن درويش كان يطمح لأن ينهي حياته برواية، ” لأن الرواية هي اُمُّ الأدب، فأنت تضمّنها كل ما يلذّ لك ويطيب، تنظم شعراً ونثراً ووصفاً وبديعاً وثرثرة، وفوق ذلك تقيم بناءً هندسياً يحتمل التأويل والمقاربة الفنية، بكل ما تزخر به من ثراء وخيال، والرواية كذلك هي غوصٌ في عالم النفس، وتحليل الشخوص، وتُطل على الفلسفة والماورائيات، وكل هذا قد يتضمّنه الشعر، ولكنه لا يحيط به على النحو الذي تحيط به الرواية، الشعر يلخّص والرواية تفرِد بضاعتها وتنوّعها وتتفنّن في تزيينها وعَرْضها، وفوق ذلك هي الوحيدة القادرة على التمرّد والخروج على القواعد وعلى كل ما يقيّدها أو يكبّلها، فلا تتقيّد بوزن أو قافية، وقد تكون جنوناً خارجاً عن كل سياق ومألوف…”

يحتار الكاتب في إيجاد صفة واحدة يلخّص فيها شاعراً بقامة محمود درويش، وهو الذي عايشه طوال أكثر من نصف حياته، وكان جامعهما الوحيد هو علاقتهما برئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات…فعبد الفتّاح روائي فلسطيني وصحافي يرأس وكالة “وفا” الناطقة باسم المنظمة، والشاعر درويش كان عضو الهيئة التنفيذية للمنظمة، والأمين العام لاتحاد الكتاب الفلسطينيين، وعضو سابق في حزب “ميريتس” اليسار الإسرائيلي، وقد كشف أن رفاقه في الحزب الشيوعي الإسرائيلي هم إسرائيليون أكثر من اليمين الإسرائيلي المتطرف…حين عرض عليه أحد رفاقه أن يقنع ياسر عرفات بأن الوقت قد حان للسلام ملوّحين لدرويش بجائزة نوبل…

“لقد تغيّرت كثيراً يا يودا”، قالها محمود بسخرية مواربة، فردّ عليه يودا قائلاً: “كلنا نتغيّر مع الزمن يا رفيق محمود، والمبادئ تتغيّر، لكن ليس إلى الحد الذي يفقدني هويتي، التي تعرفها، أو يُفقدني رشدي”… (ص167 )

بعد اختبار جنون القتل وتجربة السلاح والوحشية التي يعجز الشعر عن تمثيلها، كان لا بدّ أن نغادر بيروت بعد الحصار والفظائع التي حصلت…

يقول درويش في حصار بيروت التي شاء أن يغنّيها ويراقصها ويحتضنها:

“كلما جاءني الأمس، قلت له

ليس موعدنا اليوم فلنبتعدْ

وتعالَ غداً!

***

قال لي كاتبٌ ساخرٌ

لو عرفت النهاية، منذ البداية،

لم يبقَ لي عملٌ في اللغة”…

لكنه امتعض وراح قلبه يشعر بالوحشة مرات كثيرة، وأيضاً اتفاق أوسلو وماذا سيجرّ على الفلسطينيين من ويلات… لهذا ابتعد درويش عن السياسة وقال عن عرفات كلمته الشهيرة: يسير تحت المطر دون أن يبتل”… وبقي حلم درويش الثقافي أكثر من السياسي…

فلسفة القهوة عند درويش في ذاكرة للنسيان والحديث عن بيروت وريتا وأصدقاء…

“والقهوة الأولى هي أول دقيقة في الوقت، قبلها يكون الزمن نائماً، قبلها يكون كل شيء في حالة موت”…

هناك كثير مما لم يقله محمود في” ذاكرة للنسيان”، كتابه النثري الأخير، فالقهوة في ندائها الأول دعوة للإدمان على التدخين، ونداءٌ للبحث عن الجريدة، ونداءٌ للسؤال عن المناخ، فكلما كان الجو رائقاً، احتسينا القهوة باستمتاع وعلى مهل، وغير ذلك إذا كان الجو غائماً والقهوة الأولى يجرحها الصوت، هنا هي مرادفة للوحدة، ولا تقبل أي صوت، لا صوت الراديو، ولا صوت الهاتف، ولا صوت الحبيبة إن وُجدت “…

وحين سأله الكاتب زياد عبد الفتّاح عن ريتا وقصة عشقهما المدمّر قال درويش: “ريتا ليست امرأة، وليس ذلك اسمها، هي اسم شعري لصراع الحب في زمن الحرب، هي اسمٌ لعناق جسدين في غرفة محاصرة بالبنادق، وهي جموح الخيال واتكاء الشعر على صورٍ تتماهى، مع واقع متخيّل ننهل منه”… ريتا إذاً هي فكرة من خيال الشاعر.

– “ولماذا لا تقول ذلك علناً؟

– دعِ الوشاة والنمّامين يقولون ما يقولون، هل تظن أن عليَّ أن أشرح شعري، أن أكتب مذكرة تفسيرية، لقصيدة ترفع سحر غموضها إلى آفاق، لا يبلغها سوى الشعر في تجلّياته الكبرى، أتريدني أن أُعرّي الشعر، وأخلّصه من رمزيته، فتصبح القصيدة منشوراً أو مقالاً سياسياً، ليصفّق الناس، ويصدّقوا أنني بشريٌ وأنني شاعر! حتى أنت، لن أقول لك عن ريتا لا أو نعم، إذ ما يزال أمامي ما يشغلني، وما أكتبه ويكتبني عن الشعر.”

وحين قُتل صديق محمود القاص والفنان الفلسطيني ماجد أبو شرار في روما حيث تبعثر وتشظى من هول الانفجار، وانهار السقف على العاشقين صُعق محمود درويش من هول الخبر فكتب فيه:

“صباح الخير يا ماجد

قُم اقرأ سورة العودة

وحثَّ السير

إلى بلد فقدناهُ

بحادث سير “…

صباح الخير يا ماجد،

يا لحم الفلسطيني بين موائد الحكّام،

يا حجر التوازن والتضامن بين جلاّديك،

حرف الضاد لا يحميك فاختصر الطريق إليك!

يا لحم الفلسطيني، يا شرعية البوليس والقديس،

حين يتبادلان الاسم، إذ يتناوبان عليك، يمتزجان يتّحدان،

ينقسمان مملكتين، يقتتلان فيك “…

يقول زياد عبد الفتّاح إن محمود درويش قال له بعد اتفاقية أوسلو: ” لقد صدقناهم، ووثقنا بتعهداتهم، واقتحموا مخيمَي صبرا وشاتيلا، ونفذوا فيهما مجزرة على مدى ثلاثة أيام، ذبحوا كل من صادفهم بدم بارد، ودخلوا بيروت واحتلّوها! لن أعود معكم ولن أشارك في عودة لا بصر ولا بصيرة فيها”.

طبعاً، كان يتكلّم عن المحتل الإسرائيلي الغاصب في فلسطين.
الرحيل

كان درويش يمنّي النفس بلعبة النرد على دق محبوسة أو فرنجية مع صديقه الروائي عبد الفتاح، وحين شعر بأن قلبه سيخذله كتب قصيدة “لاعب النرد”، فهواياته خارج الشعر كانت مباريات كرة القدم ولعبة النرد. كان النرد يدلّ على حالته النفسية ومدى سعادته أو اضطرابه، وكم مرة تتكرّر الأرقام في اللعبة الواحدة، هل يضبطها زمن أو إيقاع؟ أم أنها تدور مثلما تدور امرأة لعوب، بعشوائية تحيّرك فلا تعرف من أين تأتيها وتأتيك! إن النرد امرأة حقاً، فهو يعطيك ويُغريك حتى تظن أنك ملكته واستكان لك، وفجأة ينقلب عليك، يجافيك ويعاندك كأنه ليس هو وكأنك لست أنت، فلقد أصبحت خارج عالمه وحساباته تماماً! ثم، فجأة مرة أخرى، بعد طول غياب يعود بقوة يُغدق عليك، ويمنحك قوة الحظ والنشوة.

“مَن أنا لأقول لكم ما أقول لكم!

وأنا لم أكن حجراً صقلته المياه فأصبح وجهاً

ولا قصباً ثقبته الرياح فأصبح ناياً

أنا لاعب النرد أربح حيناً وأخسر حيناً

أنا مثلكم أو أقل قليلاً

ليس لي أي دور وربما كنتُ، لو أن

ذاك المكان الزراعي لم ينكسر

ربما صرت زيتونة أو خبيراً بمملكة النمل

أو معلم جغرافيا، أو حارساً للصدى”…

زياد عبد الفتّاح في” محمود درويش صاقل الماس” روى كثيراً عن الشاعر درويش، كأنه قال ما لم يقل، ويبقى الكثير…

نعيم تلحوق

المصدر: الوفاق/ وكالات