الوفاق/ ابن السِكِّيت هو أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الدورقي الأهوازي، اللغوي، النحوي، الراوي، الشيعي المذهب، كنيته “أبو يوسف”، ويُعرف بابن السكّيت.
وهو إمام من أئمة اللغة العربية وعالِمٌ نحوي وأديبٌ شهير، ومن عظماء أتباع أئمة أهل البیت علیهم السلام ومن كبار رجالاتها ويُعدُّ من خواص الإمامَين محمد بن علي الجواد وعلي بن محمد الهادي عليهما السَّلام.
ولد في الدورق، قرب أهواز في محافظة خوزستان بإيران، ورحل من خوزستان إلى بغداد مع أُسرته، وأفاد فيها من دروس أساتذة كبار كأبي عمرو الشيباني، والفرًّاء، وابن الأعرابي، والأثرم، ونصران الخراساني، وكلّهم كانوا من أعلام العلم والأدب آنذاك، وما لبث أن صار في مصافَّ علماء عصره كابن الأعرابي، وأبي العباس ثعلب، وعُرف كأحد كبار فقهاء اللغة وصيارفة الكلام، وأضحی من أكابر أهل اللغة والمنطق، وأمضی ابن السِكِّيت الدورقي فترة مع البدو لتعلیم اللغة العربیة الفصیة والأصلیة، کما کان سائداً آنذاک.
ورغم اشتغاله بتدریس مختلف فروع الأدب كالنحو واللغة والشعر والروایة وعلوم القرآن، إلا أنه لم ینصرف عن كسب العلم، وفضلاً عن نشاطاته الواسعة في النحو واللغة، فإنه لعب دوراً مهماً جداً في حرکة جمع الشعر العربي وتدوینه، والتي بدأت قویة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري وکان تلمیذاً للأصمعي وأبي عبیدة معمر بن المثنی؛ اللذین کانا من روّاد هذه النهضة، وکان یُروى عنهما، فبادر بعدهما إلی جمع الدواوین والآثار المبعثرة لكثیر من الشعراء القدامی، لاسیما امرؤ القیس وزهیر بن أبي سلمی والنابغة الذبیاني والأعشی وعنترة بن شدّاد وطرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم وعدد كبیر من شعراء العهدین الإسلامي والأموي، والتي تعد من الذخائر النفیسة في الأدب العربي، وانتشلها من بحر النسیان والضیاع.
وفضلاً عن جمعه لتلك الآثار، فقد اهتم أیضاً بشرح وتفسیر بعضها، وقلّما نجد دیواناً لم یروه، أو یشرحه ویفسره، وبذلك قدّم خدمة جلیلة للأدب العربي بحفظه لهذه الثروة العظیمة من الإندثار، ویمكن القول بثقة إن له الحظ الوافر في هذا المضمار قیاساً بأقرانه.
کان أبوه عالماً بالنحو واللغة والشعر أیضاً، ویعدّ من أصحاب الکسائي وکان توّاقاً إلی تعلم ولده، وعُرف أبوه بالسکیت لأنه كان دائم الصمت.
حمل ابن السِكِّيت الدورقي لواء اللغة العربية وتخصَّص في مجال النحو والأدب والشعر، وله عدد کبیر من المؤلفات في هذا المجال أبرزها: إصلاح المنطق، الألفاظ، والأضداد.
من أقوال العلماء في حق ابن السِّكيت الدورقي
– قال الشيخ النجاشي في رجاله: “وكان وجهاً في علم العربية واللغة، ثقة، مصدّقاً لا يطعن عليه”، وذهب أيضاً إلى أنّه كان من خاصّة الإمامين الجواد والهادي عليهما السلام، وأشار إلى رواياته عن الإمام الجواد (ع).
– قال الخطيب البغدادي في تاريخه: “كان من أهل الفضل والدين، موثوقاً بروايته، وكان يؤدّب ولد جعفر المتوكّل”.
– قال السيّد محسن الأمين في أعيان الشيعة: “كان علماً من أعلام الشيعة وعظمائهم وثقاتهم، ومن خواص الإمامينِ محمّد التقي وعلي النقي عليهما السلام، وكان حامل لواء الشعر والأدب والنحو واللغة في عصره”.
– قال ابن خلكان: “ذكر بعض الثقاة أنّه ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل كتاب “إصلاح المنطق” لإبن السكّيت”.
– عدًّه الذهبي قويّاً في دينه، برّاً محسناً، وأشارت مصادر أُخرى إلى أنّه استمات في حبِّ أهل البيت عليهم السلام.
روي ابن السِّكيت الدورقي عن الإمام محمّد الجواد (ع) وعبد الملك الأصمعي، وأبوعبيدة، وأبو عمرو الشيباني. ومن الراوین عن ابن السِّكيت الدورقي هم؛ أبو سعيد السكري، أبو عكرمة الضبّي، محمّد بن الفرج المقرئ، محمّد بن عجلان الإخباري، ميمون بن هارون الكاتب، عبد الله بن محمّد بن رستم.
سبب استشهاده
روي أنّ المتوكّل العباسي كان قد ألزم ابن السكِّيت الدورقي تدریس ولدَيه “المعز والمؤيد”، وسأله یوماً: “أيّهما أحبّ إليك؛ ابناي هذان أم الحسن والحسين؟”، فأجابه ابن السكيت: “والله إن قنبراً خادم علي بن أبي طالب (ع) أحبّ إليَّ منهما ومن أبیهما”.
فغضب المتوكل، وأمَرَ جلاوزته بِسَلِّ لسانه من قَفاه، فمات رضوان الله عليه شهيداً في اليوم التالي، وقيل أن المتوكل أمر الأتراك فداسوا في بطنه حتى مات، وكان ذلك في اليوم الخامس من شهر رجب المرجب من عام 244هـ ، وكان عمره رحمه الله عند استشهاده ثمان وخمسون سنة، ودُفِن في مدينة سامراء.
ومن أعجب الصدف أنّه كان قد نظم البيتين التاليين قبل حادث مقتله ببضعة أيّام:
يُصابُ الفتى من عَثرةٍ بلسانهِ
وليس يُصاب المرءُ من عَثرة الرِّجلِ
فَعَثرتُه في القول تُذهب رأسَهُ
وعَثرتُه بالرِّجل تَبرا علی مَهلِ
أهم مؤلفات العالِم والأدیب ابن السكِّيت الدورقي
حمل ابن السِكِّيت لواء اللغة العربية وتخصَّص في مجال النحو والأدب والشعر، وله عدد کبیر من المؤلفات في هذا المجال، حیث غادر ابن السكيت هذه الدنيا بعد حياة حافلة بالعطاء في شتی العلوم الأدبیة واللغویة، وترك ابن السكيت ثروة علمية هائلة تمثلت في مؤلفاته التي أصبحت مصادر مهمة للدارسين والباحثين، وقد وصف اللغويون والنحويون كتبه بـالصحيحة النافعة، وقيل إن كتبه تبلغ عشرين كتاباً، ولكن بعض المصادر قد زادت على هذا العدد سوى شروحه، ولعل باقي المؤلفات قد خُفيت على المؤرخين و من أهم مولفاته:
– کتاب “إصلاح المنطق”: ويدل اسمه على محتواه عالج فيه ابن السكيت الأخطاء اللغوية والنحوية، وهو من أهم كتب اللغة.
قال عنه ثعلب: “كتاب نفيس مشكور في اللغة”، وقال عنه المبرد: ما رأيت للبغداديين كتابا أحسن منه، وقال ابن خلكان: قال بعض العلماء: ما عبر على جسر بغداد كتاب من اللغة مثل اصلاح المنطق، ولا شك أنه من الكتب النافعة الممتعة الجامعة لكثير من اللغة، ولا نعرف في حجمه مثله في بابه، وقد تناوله الكثير بالشرح والتحقيق فأوجزه الوزير ابن المغربي، وعُني به وهذبه الخطيب أبو زكريا التبريزي، وكتب ابن السيرافي على الأبيات التي احتواها، ولا يزال أثره كبيراً على دارسي العربية.
– كتاب “الألفاظ”: كتاب في الكلمات المتشابهة في ۱۴۸ فصلاً، وهو مبوّب موضوعیاً كالغنی والخصب، الفقر والجدب، والجماعة، والكتائب وغیرها.
– کتاب “الأضداد”: ويتناول شرح معاني الكلمات المتضادة.
والکتب والمؤلفات التالیة أیضاً تعد من أبرز ما قام بتألیفها ابن السِّكيت الدورقي: القلب والإبدال، المقصور والممدود، كتاب المذكّر والمؤنّث، كتاب ما اتَّفق لفظه واختلف معناه، منطق الطير ومنطق الرياحين، البحث، الأجناس الكبير، الأرضين والجبال والأودية، الأصوات، شرح ديوان الحطيئة، شرح ديوان الخنساء، شرح شعر زهير بن أبي سلمى.
شعره
توزّع شعر ابن السِّكيت الدورقي في بطون الكتب ولم تنله يد الدراسة والتحقيق وقد وصف بـ “الشعر الجيد” وقد طرق أغراضا شتى. يقول في طلب الرزق والعزم عليه:
نفسٌ ترومُ أمــــــوراً لستُ مدركُهـا
ما دمتُ أحذرُ ما يأتي به الـقـدرُ
ليس ارتحالكَ في كسبِ الغنى سفراً
لكن مقــامَك في ضرٍّ هوَ السفـرُ
وهذه الأبيات تدل على مدى إيمانه بالله واعتصامه به:
إذا اشتمـــــــلت على الـيـأس القلوبُ
وضاقَ لمـــا به الصدرُ الرحيبُ
وأوطنت المكـــــــــــــاره واستقـرّت
وأرســـــت في أماكنِـها الخطوبُ
ولم ترَ لانكشــافِ الـضـــــــرِّ وجـهاً
ولا أغنى بحـــيلـــــــــتـه الأريبُ
أتاكَ على قنوطٍ مــــنــك غـــــــــوثٌ
يمنُّ به اللطـيـــــــف المستجـيبُ
وكلُّ الحادثـــــاتِ إذا تـــنـاهـــــــــتْ
فموصـــــــولٌ بــها فــرجٌ قـريبٌ
الأبیات الشعریة التالیة هي أیضاً من أشعار هذا الأدیب والعالم اللغوي الشیعي الشهیر والکبیر.
وَ مِن النّاسِ مَن يحبُّكَ حُبّاً
ظاهر الحبِّ ليسَ بالتقصيرِ
فإذا ما سَألتَهُ عشر فلسٍ
ألحَقَ الحُبّ بِاللطيفِ الخَبيرِ
****
کمَّ مانعٍ نفسَهُ لذاتِها حذراً
للفقر ليسَ له من مالهِ ذُخرُ
إن كان إمساكه للفقرِ يحذرُهُ
فقد تعجَّلَ فقراً قبل يَفتَقِرُ
****
ليسَ احتيالٌ ولا عَقلٌ ولا أدَبٌ
يُجدى عليكَ إذا لم يُسعِدِ القَدَرُ
ولا توانٍ ولا عجزٌ يضرُّ اذا
جاءَ القضاءُ بما فيهِ لكَ الخِيرُ