أصحاب القلوب البيضاء والضحكة الدائمة المرسومة على وجوههم هم شريحة لها حق في أن تتشارك الحياة مع كل الناس من دون تمييز، من هنا جاءت أهمية دمج ذوي الاحتياجات الخاصة في دفع العملية التنموية وتطويرها، وجعلهم جزءاً لا يتجزأ من سيرورة الحياة اليومية في قطاعاتها كافة.
بابتسامة خفيّة يغلب عليها الخجل، يتحدث أحمد زنود (27 عاماً) عن تجربته المهنية بعد عام من انضمامه إلى فريق عمل في مطعم ضمن العاصمة السورية دمشق.
يقول أحمد: “في السابق، كنت أذهب إلى المدرسة، وأنا بطل سباحة، شاركت في بطولات في سوريا والإمارات وحصلت على ميداليات متعددة هناك، قبل العمل كانت الحياة مملة في المنزل، أحببت العمل لأنني صرت أتواصل أكثر مع الناس، وأعمل لأتكرّم، وأرى محبة الناس في عيونهم، بعد أن دخلت سوق العمل أصبحت أفكر أن يكون لي مشروع جديد من دخلي الحالي، وهدفي أن يكون لي مشروع خاص لصناعة الصابون والشمع وأشارك في المعارض، وحالياً أجمع دخلي لأشتري بيتاً وسيارة”. يتعالى صوت أحمد ويقول باندفاع: “اشتغلوا مارسوا نشاطات وانجحوا لأن الحياة حلوة كتير”.
خلود رجب رئيسة مجلس إدارة جمعية “جذور”، الجهة المشرفة على مشروع لتوظيف شباب من أصحاب متلازمة داون والإعاقات الأخرى، تقول: “فكرة الدمج في العمل جاءت من أجل كسر الصورة النمطية عن هذه الشريحة، سابقاً كان هناك قصور في الرؤية تجاههم، فكانت النظرة إلى هؤلاء بأنهم أشخاص محدودو المهام وهذه الفكرة مغلوطة، لأنهم في كل مرحلة يثبتون أن لديهم إمكانيات ويستطيعون أن يحرزوا النجاح والتميز إذا وجد التدخل والاهتمام المبكر”.
إن دور الأهل وإرادتهم الأساس في الدعم لأبنائهم والبحث عن حقوقهم بالدرجة الأولى لإيصالهم إلى بر الأمان في المراحل التعليمية ودمجهم مع أقران جيلهم، ومن ثم يأتي دور المشرفين والمجتمع ليكون متمماً لدور الأهل من خلال التنمية الفكرية لتعديل سلوك معين. وتضيف رجب: “ممكن أن نوجههم في بعض المهام التي تتناسب مع إمكانياتهم، كانت فكرة الدمج في العمل من أجل كسر الصورة المعممة عنهم أنهم مختلفون، لكن في الواقع هم ليسوا مختلفين أبداً، على العكس، نحن نعاملهم كأشخاص مسؤولين ولا نرى هذه الفروقات التي يمكن أن يراها بعض الناس”.
“طفلي مكانه بينكم”
بهذه العبارة تبدأ حديثها مرام زين الدين (39 عاماً) وتقول: “لدي طفلان عمرهما 9 و15 سنة، والأخير اسمه مهران من ذوي الاحتياجات الخاصة، كان يعاني من مشكلة التواصل. بمجرد أن اكتشفت صعوبة في التواصل لديه، حاولت أن أعرف ماذا يمكنه أن يفعل، وما هي اهتماماته، وأصبحت أبحث عن هواياته ورغباته كي أنمّي له قدراته. لا أنكر أن الأمر كان صعباً في بداياته وفي الوقت نفسه، كنت أعاني من المجتمع بسبب قلة الوعي في محيطي، لكن بالإصرار استطعت أن التمس الفرق الكبير عندما بدأت بالأنشطة المختلفة والتواصل لأنه أصبح يتفاعل ويحب المبادرة تجاه الآخر”.
وأضافت: “لكل طفل قدرة تميزه عن غيره، وهو نعمة من الله، والجميل أن يفتخر الأهل بابنهم كي يحترمه ويفتخر به الآخر. أن يقدّر الأهل أبناءهم ويخرجوا معهم في المجتمع ويتعاملوا معهم بلطف واحترام أمام الجميع فهذه أكبر رسالة توعوية للناس، ولا بد أن يذكر الأهل أنهم ليسوا وحدهم فهناك أشخاص كثر يمرون في المواقف التي نمر بها، ومن الضروري أن أن يتواصلوا مع الناس المحيطة بهم أو فئات الدعم الأسري بالطريقة التي تكون مناسبة لهم كي لا يبقوا وحدهم”.
رهان يوسف (44 عاماً) روت تجربتها قائلة: “عندما كبر فؤاد ابننا كان حلمنا أن يتعلم في مدرسة عادية بين زملائه الطبيعيين في المدارس لكي يكوّن صداقات من دون خوف، وأن يقبله زملاؤه فهو من أطفال التوحد المبدعين في مجال الرياضيات، اجتاز فؤاد اختبارات وعرفنا أن هناك أطفالاً يتم دمجهم ممن يعانون حاجات خاصة مختلفة، فخضعنا لإجراءات القبول لأن الفكرة تستحق أن نشعر أننا وابننا كباقي المجتمع في مدرسته ومع زملائه، والمستقبل ينتظرهم ويفتح ذراعيه بكل أمل كل حسب جهده واحتضان أسرته”.
الصعوبات التي تعترض عملية الدمج
شريحة ذوي الاحتياجات الخاصة هي شريحة كبيرة وواسعة من الأطفال الذين تختلف احتياجاتهم فمنهم من يعاني أمراضاً مزمنة أو شللاً نصفياً أو شلل أطفال، ومنهم من كان سليماً وتعرض لحادثة تسببت بشلله وآخرون يعانون مشكلة في النظر أو السمع. هذا التنوع في الحاجات يصعّب المهمة وخاصة في بداية الدمج.
الدمج التربوي في المدارس لم يثبت نجاحه المرجو على الأرض بسبب عدم اكتمال الحلقة ونقص الوعي تجاههم في بعض الأحيان فيجب أن تكون المدرسة التي تحوي دمجاً مهيأة لاستقبال طلاب الاحتياجات الخاصة من أجل أن يكون التقبل سهلاً وسلساً، وأن تضمّ مرشدين ومساعدين للمعلمات في داخل الصف كي يتم ضبط الطالب حسب حاجته من جهة، أو استيعاب الآخرين لوجود طالب مختلف معهم.
تكثر عبارات الشفقة التي تسمع على الملأ بين الطلاب “ياحرام، والله يعين الأهل” هذه التصرفات تؤثر سلباً في نفسيتهم لأنهم أشخاص حساسون ويُجرَحون من هذه الحركات غير المقصودة في بعض الأحيان. إذا أردنا أن نطبق فكرة الدمج التربوي الصحيح فيجب أن يهيأ الصف بشكل كامل عن طريق تمهيد الطلاب عبر حلقات التوعية عن هذه الشريحة الخاصة بشكل عام ليكون الزملاء عوناً للمشرفين والمدموجين معاً.
إن الأهالي والأشخاص أنفسهم هم المسؤولون عن نشر الوعي بالنسبة إلى المجتمعات والأماكن غير المهيأة للدمج، فواجبهم المطالبة بالخدمات اللازمة، كممرات المشاة ومفارق الطرق الانسيابية ومداخل الأبنية، ولفت الانتباه للأشياء الممكن تغييرها ليصبح المكان آمناً وجاهزاً لاستقبالهم في المستقبل.
أهمية الدمج في دفع العملية التنموية وتطويرها
يعد الدمج مهماً لشرائح المجتمع كافة من أجل التأكيد أن الاختلاف طبيعي، وأن الآخرين من ذوي الهمم هم أفراد من المجتمع، خرجوا إلى النور وأصبحوا في المدرسة والجامعة والعمل بكل أبوابه، وهم يستحقون الاحترام والاحتواء كباقي زملائنا أينما وجدوا، وهنا نعود إلى الأسرة الحضن والدافع الأول لهؤلاء. إنها ثقافة وحضارة.
احتواء الأطفال المحتاجين وتقبلهم لا يقفان عند مرحلة محددة فدائماً هناك مستجدات تساعد في تطوير قدراتهم بناء على شعور الطفل الذي تم دمجه، وخاصة في عصرنا الرقمي المتسارع وأطفال الهمم يجارون التطور ويبرعون فيه.
هالة الريس (62 عاماً) مستشارة تربوية قالت : ” تأهيل المعلمين وتدريبهم من أجل تلبية حاجة الدمج انعكسا بشكل إيجابي على التعليم بشكل عام، لأن المدرس أصبح ذا كفاءة لتعليم الطلاب كافة باعتبار أنهم ليسوا جميعاً يتمتعون بالقدرات نفسها، وطبعاً هناك جانب آخر مهم وهو تهيئة الأقران والأولاد لتقبل بعضهم البعض، وهنا نعود إلى أهمية برامج الكرتون والقصص والأفلام المفيدة، ولا ننسى قصص الأمهات قبل النوم للتشديد على تقبل وجود الآخر وأهميته وحقه المساوي لحقنا في الحياة والتعلم والعمل وكل ذلك بلغة قريبة من مفهوم الطفل”.
وأضافت: “واجب المجتمع تربية الأبناء وتوعية الكبار على تقبل الآخر عن طريق تنمية قيمة المساعدة، هناك فئة واسعة لا تزال إلى يومنا هذا لا تتقبل فكرة الدمج رافضة أن ترى إنساناً من ذوي الحاجات في مدرسة أو مؤسسة ما، وهم لايعرفون طريقة التعامل معه، وهناك فئة تصل إلى مرحلة الاستهتار والتنمر من هؤلاء الأشخاص، ومنهم أطفال لا يتقبلون الجلوس بجانب طالب لديه عجز خَلقي، أو أقل سوية علمية أو لديه ضعف في تحصيله العلمي نجد أنه يواجه رفضاً فإذا أجاب بطريقة خاطئة تجد معظم الطلاب يضحكون عليه”.
اختصاصية العلاج الوظيفي والتربية الخاصة رجاء عيد (38 عاماً) قالت: “من المهم توعية الأطفال السليمين ليكونوا مسؤولين تجاه أصدقائهم وإخوتهم ليكون الطفل من ذوي الإعاقة الحركية أو العقلية مصدر سعادة ونعمة بعيداً عن التثاقل من مسؤوليتهم، ولنخدمهم ونساعدهم بحب ونؤمن بقدراتهم، وكلما كان لديكم إصرار أكبر استطاع أن ينجز بطريقة تسمح له أن يكمل مشوار حياته من بعدكم من دون الحاجة إلى مساعدة أحد في المجتمع، كثير من ذوي الحاجات هم أبطال أولمبياد منهم بارعون في السباحة حصلوا على ميداليات محلية ودولية، وبعضهم يلعبون تايكوندو ورفع الأثقال، ومنهم من لديه مواهب فنية، فهم أذكياء جداً ويملكون طاقة متنوعة وأصحاب إرادة أكثر مما تتوقع الناس منهم، هم فقط خجولون لا يظهرون مواهبهم أمام الغرباء، لذلك يجب علينا ألّا نحكم على الأطفال ذوي الإعاقة من النظرة السطحية الأولى لأن لديهم رهبة من المجتمع ومواجهته”.
دمج ذوي الهمم ليكونوا فاعلين هو حق إنساني لشريحة مهمة في المجتمع وليس عملاً خيرياً كما يظنه البعض، وذلك من خلال الدمج في التعليم والنشاط الرياضي والثقافي، وإيجاد فرص عمل مناسبة ومشجعة وتنظيم الطرق والمسارات في الأماكن العامة، وكل هذا يعود بالفائدة عليهم وعلى ذويهم وعلى المجتمع ككل.