ساهم العديد من الكتّاب المعاصرين في تأريخ النكسة أدباً، في رواياتهم وأشعارهم ونصوصهم المسرحيّة؛ فشكّلوا سجلّاً لغويّاً نضاليّاً وثّقوا فيه واقع الحرب، وسطّروا لكفاح الكلمة معنًى ثائراً، وُظِّف به الأدب في ميدان الخطاب السياسيّ، المتمثّلة غايته في ضرورة تشكيل الوعي وتمجيد المقاومة.
يُعَدّ نزار قبّاني (1923 – 1998) الشاعر الأوّل – عربيّاً – الذي صاغ أسباب نكسة الخامس من حزيران وتداعياتها، بأسلوب شعريّ عالي النقد في قصيدته “هوامش على دفتر النكسة”، التي جسّدت انبعاث القصيدة المعارضة والمقاومة من رحم الهزيمة والفجيعة، وأخرجت اللغة القبّانيّة من أنوثة فضائها ورومانسيّته إلى صرامته، ومن دائرة الحبّ والغزل إلى دائرة الثورة والغضب؛ فصارت الأرض والمقاومة محور قصيدة نزار، الذي يرى أنّ “الوطن قد يصبح في مرحلة من المراحل عشيقة أجمل من كلّ العشيقات، وأغلى من كلّ العشيقات”.
بهذا أصبحت نصوصه الشعريّة والنثريّة جزءاً من المعارك الأيديولوجيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، التي يجب أن تكون وتتكاثف وتُقْرَأ كوحدة صفّ؛ وعليه ينطلق هذا المقال من أهمّيّة التفسير الاجتماعيّ للعمل الأدبيّ، ويتساءل كيف نقرأ نصّ «الهوامش» بوصفه خطاباً فكريّاً ناتجاً عن تماهي الأدب مع الوقائع السياسيّة والأحداث التاريخيّة والقضايا الإنسانيّة، لا سيّما أنّ النكسة، وما سبقها من نكبة، وما تلاها من انتفاضات وهبّات، هي أحداث سوسيوتاريخيّة.
“الهوامش”
كتب نزار قبّاني قصيدته “الهوامش” في أعقاب هزيمة حزيران في عام 1967، التي سلبت العرب والفلسطينيّين الضفّة الغربيّة بما فيها القدس الشرقيّة، وقطاع غزّة، وشبه جزيرة سيناء، وهضبة الجولان، في حرب مقدارها ستّة أيّام، هجّرت الفلسطينيّين، ووطّنت الكيان الصهيونيّ، وهوّدت الأرض العربيّة؛ وهو ما دفع نزاراً إلى أن يمتطي حصان الغضب – وفق تعبيره – ويكتب “الهوامش” التي كانت الصوت الذي أسمع صداه في كلّ بقاع الأراضي العربيّة حتّى زلزل العقل الجمعيّ والذات العربيّة، ذلك الصوت الذي لا يمكننا أن نختزله بِـنزار، ونسمعه على أنّه صوته الشخصيّ فقط؛ لأنّ نزاراً في تلك اللحظة التاريخيّة الفارقة عربيّاً، جسّد الصوت الاجتماعي لجماعة عربيّة وفلسطينيّة ثارت كما هو.
إذ يذكر لنا في كتابه “قصّتي مع الشعر” (1970) – الذي يراه نوعاً من السيرة الذاتيّة – أنّ “حزيران كان ثمرة شديدة المرارة. بعضنا أكلها… وبعضنا اعتاد تدريجيّاً مذاقها… وبعضنا تقيّأها فوراً”؛ فكان هو من الجماعة التي “أضربت عن الطعام… ورفضت الاعتراف بالجنين المشوّه الذي طرحه رحم حزيران”.
نُشِرت القصيدة أوّل مرّة في “مجلّة الآداب” اللبنانيّة، على يدَي صديق نزار، سهيل إدريس، بعد أن قرأها له نزار في مكتبه، فقرّر نشرها على الفور، رغم تحذير الآخر له من تداعيات ذلك على مجلّته؛ باعتبارها تمثّل نوعاً من العبوّات الناسفة التي تُسْقِط “مفهوم الوطنيّة بمعناه الديماغوجيّ والعشائريّ”، إلّا أنّ سهيلاً ردّ بقوله: “إذا كان حزيران قد دمّر كلّ أحلامنا الجميلة… وأحرق الأخضر واليابس، فلماذا تبقى “الآداب” خارج منطقة الدمار والحرائق؟”.
ما إن شاعت “الهوامش” بين الناس حتّى صارت توقّعاتهما واقعاً، وأُحْرِقَتْ أعداد المجلّة، وفُرِضَ الحصار على شعر نزار في صحافة مصر، وإذاعاتها التي توقّفت عن إذاعة قصائده المغنّاة؛ إذ لم يتقبّل الكثيرون لغته بعد حزيران، وعبّر نزار عن هذه الحالة بقوله: “الناس يعرفونني عاشقاً كبيراً… ولا يريدون أن يعرفوني غاضباً كبيراً”.
على إثر هذا النقد الذي فاق حدّه الطبيعيّ وأساليبه المنطقيّة، بعث نزار قبّاني رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر، في 30 تشرين الأوّل/أكتوبر 1967 بيروت، يشكو إليه فيها ما يتعرّض له من قمع السلطات الرسميّة في مصر، الذي كان ذروته منع دخوله إلى الجمهوريّة، وقال فيها: “إنّي لم أخترع شيئاً من عندي، فأخطاء العرب النفسيّة والسياسيّة والسلوكيّة مكشوفة كالكتاب المفتوح”، وإنّه “لم يكن بإمكاني وبلادي تحترق، الوقوف على الحياد، فحياد الأدب موت له”.
كما أوضح نزار أنّ ما تعرّض له أبعد من قضيّة حملة تنتقد اسمه وشعره، بل “القضيّة هي أن نحدّد موقفنا من الفكر العربيّ. كيف نريده؟ حرّاً أم نصف حرّ؟ شجاعاً أم جباناً؟ نبيّاً أم مهرّجاً؟”.
على إثر هذه الرسالة، دخلت «الهوامش» – الهويّة الشعريّة الجديدة لنزار – إلى مصر بقرار من جمال عبد الناصر، وصارت كلّ نسخة مصريّة منها تبعث عشرات النسخ عربيّاً، وانقسمت الأوساط الاجتماعيّة بين مؤيّد ومعارض؛ لأنّ ما يميّزها هو أنّها لا تبكي النكسة، وإنما تعرّي أسبابها علناً وتعدّد مستوياتها، وتتّخذ من كلّ كلمة رصاصة وبندقيّة.
ما دخلَ اليهودُ مِنْ حدودِنا
وإنّما…
تسرّبوا كالنملِ… مِنْ عيوبِنا
(…)
كلّفَنا ارتجالُنا
خمسينَ ألفَ خيمةٍ جديدة.
سوسيولوجيا النصّ الشعريّ
رغم الاعتراف بالخصوصيّة الفنّيّة للعمل الأدبيّ، إلّا أنّه لا يمكننا أن نفصله عن المجتمع ومجريات الواقع والتاريخ، وعن علاقته بمختلف جوانب الحياة الاجتماعيّة.
وتبعاً لجورج لوكاتش في نظريّاته حول العلاقة بين الأدب والبيئة والمجتمع بما يتضمّنه من علاقات وطبقات اجتماعيّة، نرى في قصيدة «الهوامش» انعكاساً لواقع الحالة الاجتماعيّة والسياسيّة والأيديولوجيّة للسياق الزمانيّ والمكانيّ للحدث؛ ممّا يستدعي طرح قراءة سوسيولوجيّة تكشف عن علاقة بنية نصّها الشعريّ بالبنية الاجتماعيّة والسياسيّة والتاريخيّة، بما أنّ “علم اجتماع النصّ يهتمّ بمسألة معرفة كيف تتجسّد القضايا الاجتماعيّة والمصالح الجماعيّة، في المستويات الدلاليّة والتركيبيّة والسرديّة للنصّ، في محاولة أوّليّة تقرأ هذا الخطاب الشعريّ المعارض والمقاوم على ضوء السوسيولوجيا، يمكن أن نكشف عن ثلاثة مستويات أو محاور للتفسير الاجتماعيّ، هي: أوّلاً؛ في وصف علاقات السلطة والقوّة، اللتين نقلهما النصّ في صورتين هما: حالة الاستبداد وقمع الرأي في الدول العربيّة، ونظرة الغرب الدونيّة إلى بلاد الشرق.
لو أحدٌ يمنحني الأمان
لو كنتُ أستطيعُ أنْ أقابلَ السلطانْ
قلتُ لهُ: يا سيّدي السلطانْ
كلابُكَ المفترساتُ مزّقتْ ردائي
ومخبروكَ دائماً ورائي…
عيونُهم ورائي… أنوفُهم ورائي… أقدامهم ورائي.
في لغة قصيدةٍ استدعتها مخيّلة نزار من وقائع اجتماعيّة وسياسيّة، تجلّت النزعة السياسيّة المعارضة والناقدة لحالة كبْت حرّيّة التعبير، التي تُوَصِّف الصراعات الداخليّة للأمّة العربيّة في علاقة الشعب بالأنظمة السياسيّة التي تقمع رأيه، وتفرض عليه المراقبة والعقاب، فتأسيساً على شكل هذه العلاقة ومحدّداتها يرى نزار أنّ أحد الأسباب الكامنة وراء الهزيمة يعود إلى تاريخ هذه العلاقة، التي حضرت تداعياتها السلبيّة في ساحة الحرب، وأوجز ذلك بأبيات:
يا سيّدي السلطانْ
لقد خسرتَ الحربَ مرّتين
لأنّ نصفَ شعبِنا… ليسَ لهُ لسانْ
ما قيمةُ الشعبِ الذي ليسَ لهُ لسانْ؟
وفي لغة نزار الاحتجاجيّة على الحالة الفكريّة والثقافيّة للشعوب العربيّة، خاطب القرّاء بضرورة التطوّر والتغيير، وإثبات الذات العربيّة وترسيخ استحقاقها؛ فطالب بالانفتاح على الغرب (بلاد الثلج في وصفه) الذي لا يعترف بهم، ويهمّش وجودهم؛ فوفقاً لضرورة الوعي بمسبّبات الاستعمار والهيمنة الغربيّة، قال:
جرّبوا أنْ تقرأوا كتابْ
أنْ تكتبوا كتابْ
أنْ تزرعوا الحروفَ، والرّمّانَ، والأعنابْ
أنْ تبحروا إلى بلادِ الثلجِ والضبابْ
فالناسُ يجهلونَكم… في خارجِ السردابْ
الناسُ يحسبونَكم نوعاً مِنَ الذئاب.
ثانياً؛ في الكشف عن القيم والعادات ومشكلات الأمّة العربيّة وعيوبها؛ إذ يبرز البُعْد الاجتماعيّ لقصيدة «الهوامش»، من خلال وصف الشاعر الخرابَ الداخليّ الذي تعيشه الأمّة العربيّة، والذي أبعدها عن مقوّماتها كما يجب أن تكون، من سمات وحدة المصالح المشتركة والأهداف الجماعيّة، وتغليب الكلّ على الجزء. كما يذكر أنّ المنطق القبليّ الذي يحكم الشرق ساهم في فقدان قيمة النصر الجماعيّ.
لو أنّنا لَمْ ندفنِ الوحدةَ في الترابْ
لو لَمْ نمزّقْ جسمَها الطَّريَّ بالحرابْ
لو بقيتْ في داخلِ العيونِ والأهدابْ
لما استباحتْ لحمَنا الكلابْ.
ثالثاً؛ في إدراك النصّ لوظيفته الاجتماعيّة في ظلّ واقع الاستعمار؛ فعلى الرغم من أنّ النصّ الشعريّ يعي أهمّيّة تشكيله للذائقة الجماليّة بوصفه فنّاً، إلّا أنّه على مستوًى آخر، يعي أيضاً أنّ الكلمة أداة كفاح الفضاء الأدبيّ، فلم يتجاوز أهمّيّة دوره في دحض الوعي المزيّف، وتعبئة وجدان الجماهير بقيمة المقاومة، إلى جانب دوره في تعرية الواقع السياسيّ والاجتماعيّ للدول العربيّة، وضرورة تغييره بوصفه قيمةً فنّيّة من نوع آخر، أنتجها الأدب الفلسطينيّ المقاوم من تفاعله مع مختلف جوانب البيئة.
الوعي العربيّ بين “قائم” و “ممكن”
انطلاقاً من فكرة أنّ “علم اجتماع النصّ يجب أن يتّجه نحو كلّيّة مجموعة النصوص؛ كي يدرج نقاط التقائها وتناقضاتها داخل السياق الاجتماعيّ التاريخي”، يمكن القول بأنّه من قصيدة “الهوامش”، وبتتبّع جميع قصائد نزار الأخرى المنبعثة من أدب حزيران، تَسْهُل ملاحظة الحضور الكثيف للمضامين الثوريّة، والرسائل الاجتماعيّة والسياسيّة، وطغيان الملامح الوطنيّة، وتجلّيات المقاومة في لغته النضاليّة على مستوى الكلمة ومعناها ووظيفتها. تلتقي كلّها وتتشابك لتعكس ضرورة بارزة هي تشكيل الوعي وتعميقه.
أكّدت النصوص القبّانيّة فعل الوعي في العمليّة الكتابيّة، وعمّقت “الهوامش” ذلك، من خلال تجسيدها لمستويين من الوعي: “قائم” و “ممكن”.
الأوّل هو الوعي بأسباب الهزيمة ومصادرها وظروفها، وتداعياتها على واقع الحياة الاجتماعيّة. أمّا الثاني، فهو الوعي بالشكل الذي يجب أن يكون عليه المستقبل، وبمتطلّبات التغيير لتحقيقه، وهذا أقصى درجات الوعي.
ليست “الهوامش” نصّاً معزولاً عمّا تلاها من قصائد؛ فالذي يقرأ بشكل معمَّق قصيدة “أصبح الآن عندي بندقيّة”، وقصيدة “الممثّلون”، وقصيدة “المهرولون” التي كتبها بعد “اتّفاقيّة أوسلو”، وقصائد “ثلاثيّة أطفال الحجارة” المنشورة أعقاب “انتفاضة الحجارة”، وغيرها، يدرك أنّ كلّ نصّ منها يمثّل معنًى في علاقته بالنصوص الأخرى، وأنّ نزاراً في كلٍّ منها صوّر وعي الجماعة العربيّة والفلسطينيّة بين واقعي (فعلي) ناتج من ظروف الماضي وأحداثه وتراكم خبراته، وممكنٍ (مثالي) يعي الأوّل ويطمح إلى تخطّيه.
وقد ميّز بينهما في كثير من المواضع، كتلك التي تناولت الوضعيّة الاجتماعيّة للجماعات العربيّة، وتلك التي خاطبت الجيل القادم ووصفته.
وما بين توصيف الوعي القائم، وتبيان الأسباب التي تحول دون تحقيق مستوى الوعي الممكن، ساد الطابع الجماعي في النصوص رغم الطابع الفردي لأيّ عمل فنّيّ أو أدبي؛ كونها تعبّر عن أبعاد ووقائع اجتماعيّة، ثمّ “إنّ العمل الفنّيّ ليس نتاج مؤلّف بوصفه فرداً، لكنّه يكشف الوعي الجماعيّ والمصالح والقيم الاجتماعيّة لجماعة أو طبقة”. وعليه، يعتبر غولدمان إنّ “العمل العظيم هو وحده الذي يحتوي على بنية للوعي الجماعيّ الاجتماعيّ، تُظهر “رؤية للعالم” كلّيّة ودالّة من القيم والمعايير”.
لا قيمة لقصيدة لا تشعل الحرائق
إنّ ما أسهم في تشكيل هذه البنية اللغويّة، بكلّ ما تحمله من معانٍ ظاهرة وكامنة، هو المؤثّرات والتأثيرات الاجتماعيّة للهزيمة في حرب دخلها العرب بإمكانيّات كادت تقودهم إلى نصر محتوم، لولا أنّ العدّة فاقت والإعداد أخفق؛ حتّى خسروا قتلى وجرحى وأسرى وعتادهم الحربيّ. هذا ما دفع بنزار قبّاني إلى أن يعبّر بـ “الهوامش” عن المرتكزات الحقيقيّة التي يجب الانطلاق منها عند تناول هزيمة حزيران من جوانبها السياسيّة والأيديولوجيّة والاجتماعيّة، وأن يبعث روح المقاومة في ما تلاها من قصائد تضمّنت حركات اجتماعيّة بوصفها شكلاً أدبيّاً ثوريّاً ومناضلاً، حتّى أصبحت طليعته الأدبيّة بعد الخامس من حزيران، التي انقطع فيها عن شكل ماضيه الأدبيّ، تُجَسِّد طليعة سياسيّة وثوريّة يجب أن تكون. إذ عنده “لا قيمة لقصيدة لا تشعل الحرائق في الوجدان العامّ (…)، وفي المرحلة التاريخيّة التي نعيشها، لا قيمة لشعر يحترف التبخّر والخوف والتستّر والتقيّة”.