معرض فني

“عضو غريب”.. العبيدي يوثّق المجازر بالفن

سلسلة من الأعمال الضخمة بالأسود والأبيض..

2022-11-20

كيف وثق الفنان العراقي محمود العبيدي للمجازر في أميركا وفلسطين والعراق؟

قدم “غاليري صالح بركات” سلسلة من الأعمال الضخمة بالأسود والأبيض تغطي جدران صالة الغاليري، تعيد المشاهد إلى عصر ما قبل التلاوين. يطغى عليها السواد، ومهما قيل في السواد، فإنه ثقافياً إشارة شؤم، وحزن، وحِداد.

إنّه معرض الفنان العراقي محمود العبيدي بعنوان “أعضاء الغريب” (The organs of the Outlandish).

عنوان يجمع مشروعين فنيين، واحد بعنوان “رسائل مبهمة” (Hidden Messages)، والآخر بعنوان “إعمل حرباً لا حبّاً”، (Make War Not Love)، تضادّاً مع فكرة “إعمل حبّاً لا حرباً” (Make Love Not War).

المشهديّة نكبوية، والكلام يؤشر لذلك المنحى والقصد، وأعمال الجزء الأول الذي يتصدر مشهد المعرض هو “الرسائل المبهمة”، تجريدية بصورة يصعب تفسيرها، أو فهم مغزاها، تحتوي إشارات الرعب، والقتل، والموت، وبحسب عبيدي، فإن الفكرة من اعتماد التجريدية بهذا المستوى هو خطورة البحث الذي يتناوله العمل، وأفكار إسناده، فهو عمل بحثي مضت 4 سنوات على البدء به، قبل تحويله لعمل فني، مردفاً إن “خطورة الموضوع دفعت بشريك للتخلي عن الشراكة، لأن الموضوع بنظره صعب، وخطير”، كما قال العبيدي، مؤكّداً أن الأعمال تعرض لأول مرة.

لكنّ مشهدية المشروع الثاني من المعرض، رغم تجريديتها هي الأخرى، تعطي انطباعات عن موضوع المعرض، فاللوحات، بالأحجام المختلفة، ومنها المجسّم الذي قد يصل حجمه إلى 4 أمتار عرضاً، و270 سنتمتراً ارتفاعاً، تحتوي أشكال أعضاء بشرية متقطعة، ومتصلة ببعضها بعشوائية، وبدائية تذكّر بالرسوم البدائية التي كانت تكتشف في مداخل المغاور، تنضم إليها أعضاء حيوانية أخرى، تعبيراً عن شمولية همجية الحروب التي تطال البشر وسواهم من المخلوقات، وتشير إلى أن مشكلة الأعضاء هي الحروب، ومع العبيدي، لا بدّ من أن تدل على الحرب الأميركية على العراق.

وتتجلى حقيقة اتجاه العرض تدريجياً مع فهم أن العبيدي عراقي، هاجر العراق إثر الحروب التي شُنّت عليه، وسكن في كندا كموطن ثانٍ له، مما أعطاه شعوراً بالغربة، والحنين الدائم، والتوق للوطن التي تتسم بها الكثير من أعماله من جهة، وهذا الشعور هو الذي أعطى المعرض عنوانه “العضو الغريب”، والمقصود به هو شخصياً، من جهة ثانية.

هجرته، وانتماؤه الجديد، ومعارفه المكتسبة سابقاً أم المكتسبة في كندا، دفعته للبحث عما يجري في عالمه، وبعد 4 سنوات بحثية، يقول العبيدي إنه “اكتشف المذهل، وهي حرب الإبادة التي مارسها الوافدون الأوروبيون بحق سكان أميركا وكندا الأصليين”.

ويوضح العبيدي (1966) في حديث مع “الميادين الثقافية” إنه بدأ بربط مجزرة أميركا وكندا، بالمجزرة بحق الفلسطينيين، ثم بحرب العراق، وخالصاً إلى معادلة أن حرب أميركا وكندا كانت قتل السكان الأصليين، طمعا بالأرض، وفي فلسطين، طرد السكان من بيوتهم وأرضهم للاستيلاء على الأرض، وفي العراق قتل الشعب، وتهجيره، وطرده للاستيلاء على الأرض”، مضيفاً أن “حرب العراق هي حرب إبادة، وضرب الأرض، وإحداث الفوضى وصولاً لطرد السكان، والأجيال العراقية صارت خارج العراق، في غير بلد”.

ويرى الفنان العراقي أن “كل تلك المجازر والحروب، المنتهي منها، كالعداء لسكان القارة الأميركية الأصليين، أم المستمرّة في أمكنة أخرى، مرتبطة مع أهداف، ومصالح الشركات الكبرى، ومشاريعها الضخمة التي هدفها الاستثمار الرأسمالي”.

يعتقد العبيدي أن إيديولوجيا التدمير والقتل والمجازر، تستلهم النص التوراتي وتحديداً في سفر الخروج، ويقول عن ذلك: “إنها إيديولوجيا المجازر، الموجودة في قلب سفر الخروج، وقد استوحت مجازر الإبادة بحق حضارات كبرى، وما تزال مستمرة حتى اليوم”، مستنداً في ذلك على النصً التوراتي القائل: “قليلاً قليلاً أَطْرُدهُمْ مِن أَمامكَ إِلى أَنْ تُثْمِرَ، وتمْلِكَ الأَرض”، ويردف النص: واجْعَلُ تُخُومكَ مِنْ بَحرِ سُوفٍ إِلى بحرِ فلسطين، ومن البرِّية إِلَى النَّهرِ. فَإِنِّي أَدفعُ إلى أَيديكُم سُكَّانَ الأَرْضِ، فَتطْردُهُمْ مِنْ أَمامكَ”.

التجريدية ودور الفنون

تجريدية المعرض تدفع للسؤال عن دور الفنون، وابتعادها عن الجمهور، واقتصارها على مجموعات من المثقفين، لكن العبيدي يرى أن للفن رسالة أبعد من أن تكون اللوحة جميلة ومزدانة، قابلة للتخزين في القصور، أم على جدار البيوت، ويمكن أن يكون هذا المنحى خياراً للفن، لكن هناك فنان آخر، متورّط يعتمد فكرة معيّنة، ويعمل عليها، ويعتبرها وثيقة باللوحة.

ويقول إن معرضه هو توثيق فني لمرحلة، ومؤكّداً أن التجريد ليس أسلوبه الدائم، مع الاعتراف بأن مشروعه الراهن عمل صعب، ففيه بحث مختصر بلوحة، لكنه الأسلوب الوحيد الذي اعتمدته لكي نجعل فكرة المعرض ناجحة.

ويقترح على الباحث عن معنى اللوحة البحث أبعد من نظرته الأولى للأعمال، للمشاركة معه في بحثه في أبشع مظاهر الوحشية التي عرفتها البشرية، والمتمثلة بالقتل الجماعي للشعوب، وحروب الإبادة، ومعانيها، وتجلياتها، وربما كان التجريد دافعاً لمن يرغب الانخراط معه في هذا البحث الذي أنجب معرضه الراهن.