إن المساجد لله.. ما هو مفتاح العبودية؟

يجب على المؤمن أن يراقب عبادته عمومًا، وسجوده خصوصًا، ليرى: هل تنفتح كل كيانات العبودية فيه من قلبٍ موقن، وعقلٍ مصدِّق، وروحٍ محلِّقة

2023-07-03

هَبْ أنَّ ملكًا أنشأ حديقةً غنَّاء جميلة، أحضر فيها نادر الأشجار وبديع الأزهار، شقَّ لها الينابيع ليسقيها ويرعاها، ووزّعَّ الأشجار على نحوٍ دقيقٍ بديعٍ رائع، ثم سيّجها بسورٍ شاهقٍ له سبعة أبواب، وأعلن رسميًا أنّ تلك الأبواب من حقه وحده، فلا ينازعه فيها أحد، ثم أمّن عليها حارس.

هل تتوقعون -فيمن أنشأ حديقةً كهذه- أنه أراد الأبواب لذاتها؟ وماذا لو فتح الحارس البوابات لغير الملك؟
أبواب الإنسانِ.. آرابُه السبعة

عندما نتأمل في حال تلك الحديقة؛ سنرى أنّ ثمة أمرًا عظيمًا سيُستباح إذا خان الحارسُ العهدَ وسمح لغير الملك عبور تلك الأبواب، لأنّ الإشكالية لا تكمن في عبور الأبواب لذاتها، بل في الأملاك التي ستُستباح لمن ليس له حقٌ فيها، ولا يملك منها شيئًا، ولا شارك في إنشائها ورعايتها.

ولله المثل الأعلى، فقد قال الله عز وجل {وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً}[الجن:١٨] وقد رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسَاجِدِ الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ وَهِيَ سَبْعَةٌ: الْجَبْهَةُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ، يَقُولُ: هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا السُّجُودُ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ فَلَا تَسْجُدُوا عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ [تفسير ابن كثير]، وَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَالَ النبي ﷺ: [إِذَا سَجَدَ الْعَبْدُ سَجَدَ مَعَهُ سَبْعَةُ آرَابٍ] (آراب: أعضاء)، وقال عطاء: مساجدُك: أعضاؤك التي أُمرت أن تسجد عليها، لا تذللها لغير خالقها.[تفسير القرطبي]، فملك الملوك تبارك وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، وصوّره فأحسن صورته، وأتمَّ خلقه بإحكام، وسخَّر له ما في السماوات وما في الأرض، وهيّأ له كل شيء، ثم أمره -تعالى- بعبادته، وجعل للعبادة المحضة هيئات مختلفة منها القيام والركوع والسجود، وبالرغم من العبودية التي يقتضيها الركوع، إلا أنّ “الركوع عبادة تختص بالصلاة لا تصح منفردةً عنها بخلاف السجود؛ فقد جاء في الشريعة سجود التلاوة والشكر ونحوهما بلا صلاة، وأما الركوع فلم يَرد، ومثله القيام؛ لذا كان السجود أعظم عندَ اللهِ؛ لِتمحضِهِ بالتعبد، فمن سجَدَ لغيرِ اللهِ، كَفَرَ؛ لأنه لا يُعْرَفُ السجود في الأُمَّةِ منفردًا ومتضَمنًا إلا عبادةً بخلافِ مَن قام وانحنى؛ فإن قصد التعبد كفر؛ لأنَّ القيام بذاتِهِ بلا صلاة لا يدلُّ دَلالة تامة على التعبد إلا بقرينة”[التفسير والبيان لأحكام القرآن – عبد العزيز الطريفي].

“لذا اختص الله تبارك وتعالى له الأعضاءَ التي يحصل السجودُ باستوائها على صعيدٍ واحدٍ، لأنها أبواب العبودية له عزّ وجل، ومفتاحُها استواؤها على صعيدٍ واحد، فإذا نُصِبَت على صعيدٍ واحد؛ فُتِحَت، وانجرَّ من خلالها كل ألوان العبودية، ليصطبغ بها جميع الجسد حتى تصبح سيماه، ولأن الوجهَ واجهةُ السَمتِ والسيماء؛ فهو أول ما يتبلور فيه آثار السجودِ، فقد قال الله عز وجل {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}[الفتح:٢٩]، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنه “أما إنه ليس بالذي ترون، ولكنه سيما الإسلام وسَحْنته وسَمته وخشوعه”، وقال مجاهد “الخشوع والتواضع” [تفسير الطبري].”

فظاهر السجودِ عبوديةُ الجسد، أما جوهر فانفتاح وتحرُّر كل الكيانات الكامنة في هذا الجسد من عبودية الروح، القلب، النفس، والعقل، لأنَّ البابَ إذا فُتِح؛ أُبيح ما أُغلِق عليه، وهذا يقتضي تمام التوحيد والإذعان لله جل جلاله.

الشرك ظلمٌ عظيم.. لماذا؟

جاء نهيٌ بعدم الإشراك بالله، ولبديع التناسق وردت ذلك بعد أن خصّ الله المساجد له سبحانه وتعالى، لأنّ عدم دعوة أحدٍ مع الله تكون نتيجةً طبيعية إذا حُصِرَت المساجد لله، لذا كان الشرك بالله -تبارك وتعالى- أعظم الظلم، فقد قال الله عز وجل {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:١٣]، لأنّ المشرك المتعبِد لغير الله إذا سجد، فإنه لا يقتصر على عبودية بدنه فقط، وإنما فرَّط في كل صنوف العبودية بنصب آرابه السبعة على صعيدٍ واحد لغير الله، فهو بهذا سمح لمن لا يخلق شيئًا، ولا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، أن يزاحم الخالقَ المتقِنَ في ملكه! وأن يتسلل أسوار الحديقة من أبوابها بغير حق! بل سوّى بينهما! فأيُّ ظلمٍ وأي جريرةٍ بعد هذا؟! وهل كل من سوّى آرابه السبعة على صعيدٍ واحدٍ قائلًا إنها لله؛ يكون صادقًا؟

الحق أننا إذا تأملنا في حال الخلق؛ سنجد أناسًا يصفُّون مساجدهم على صعيدٍ واحد دون تحقيق العبودية لله أو تحقيق تمامها، ويقع هؤلاء في فئتين رئيستين:

الأولى: المنافقون: فإذا اطلعنا على حال المنافقين سواء في عهد النبي ﷺ أو في أي زمان، سنجد أنّ كثيرًا منهم يصلون، ويسجدون، وفي ذات الوقت يبطنون الكفر! والحق أنّ انفتاح كوامن الجسد حاصلٌ بسجودهم، ولكن العبودية التي انفتحت هي عبودية الأهواء وأمراض القلب، فهم سجدوا لإدراكهم أنهم لن يستطيعوا أن يكيدوا للإسلام إلا إذا اندسوا فيه، لأنّ الجُبن منعهم أن يجاهروا بالكفر، فكأن مساجدهم استوت لأهوائهم، كمساجد المشركين لأصنامهم، فنَفَذَت عبودية القلب والروح والنفس والعقل نحو أهوائهم، فظاهريًا يسجدون مع الساجدين لله، أما على وجه الحقيقة، هم نصبوا أهواءهم وأدرانَ قلوبهم أمامهم صنمًا يُعبد من دون الله.

الثانية: مؤمنون منشغلون بالدنيا: هؤلاء قومٌ آمنوا، ولكن انشغلت قلوبهم وأرواحهم ونفوسهم وعقولهم بالدنيا وما فيها حتى غلبت عليهم، وشغلت حيزًا في نفوسهم، فإذا استوت آرابهم السبعة على صعيدٍ واحد ساجدين لرب العالمين؛ حصلت عبودية الأبدان، وانفتحت أبواب العبودية، ولكن حجزت الدنيا -على قدر إشغالها لكل نفس- بقية صنوف العبودية أن تنسلّ وراء البدن، وتُحلِّق هي الأخرى في موكب العبودية لله رب العالمين، فأصبحت العبادة ظاهرة، لا تخضع معها كل مكونات النفس البشرية، ليس لأنها منصرفة، ولكن لأنها حبيسة، وهؤلاء تبرأ ذمتهم بهذه الصلاة وهذا السجود، ولكن أين الغاية من تلك العبادة؟! “فليست الغاية من الطاعات مباشرة رسومها الظاهرة، واعتياد أشكالها، وتقمص صورها.. كلا، بل الغاية منها أن تزيد حِدَّةُ العقل في إدراك الحق، وارتياد أقرب الطرق إليه، وأن تُمكِّن الإنسان من ضبط أهوائه، وإحسان السير في الحياة بعيدًا عن الدنايا والمظالم” [جدد حياتك – محمد الغزالي].

لذا يجب على المؤمن أن يراقب عبادته عمومًا، وسجوده خصوصًا، ليرى: هل تنفتح كل كيانات العبودية فيه من قلبٍ موقن، وعقلٍ مصدِّق، وروحٍ محلِّقة، ونفسٍ مذعنة بتسوية أعضائه السبعة على صعيدٍ واحد؟ فإن كان نعم؛ فاللهم لك الحمد، وإن كان لا، فليجاهد نفسه ويزكها حتى تذعن لخالقه ومالكه تبارك وتعالى، فقد أعطاه مسئولية الأمانة، وسيحاسبه عليها.
شمسٌ وكواكب!

عندما نتأمل علاقة الكواكب بالشمس، وكيف أنّ جميع الكواكب باختلاف مسافاتهم منها، وأحجامهم، وسرعاتهم، يدورون حولها في أفلاكٍ منتظمة مرتبطة بها هي، حتى أقمارهم المرتبطة بهم وتدور في فلك كل كوكب، هي في النهاية تطوف مع كوكبها حول الشمس.

وهكذا تمامًا يجب أن تكون علاقة المسلم بالعبودية لله عز وجل، فالعبودية كالشمس، والمسلم كالكوكب، والقمر كحياته، فالعبودية -التي مفتاحها نصب الآراب لله على صعيدٍ واحد- هي المركز الذي يجب أن يدور حوله المسلم، وينتظم في فلكها، ويوطِّن نفسه وحياته كلها على هذا الفلك، ويضبط كل معاملاته وفقًا لها، وهذا التعبيد للمؤمن منبثقٌ عمّا فطره الله عليه “فالله سبحانه فطر عباده على شيئين: إقرار قلوبهم به علمًا، وعلى محبته والخضوع له عملا وعبادة واستعانة؛ فهم مفطورون على العلم به، والعمل له” [بيان تلبيس الجهمية – بن تيمية]، “وهذا العلم يُلزم نفوسهم لزومًا لا يمكنهم الانفكاك عنه، أعظم من لزوم العلم الضروري بالأمور الحسابية والطبيعية مثل كون الواحد ثلث الثلاثة، وأن الجسم لا يجتمع في مكانين، وذلك أنّ ذلك علمٌ مُجرَّد ليسوا مضطرين إليه، بل قد لا يخطر ذلك ببال أحدهم، وأما هذا العلم فهم مع كونهم مضطرين إليه، هم مضطرون إلى موجبه ومقتضاه، وهو الدعاء والسؤال والذل والخضوع للمدعو المعبود، الذي هو فوق” [بيان تلبيس الجهمية – ابن تيمية]، فمهما امتلك الإنسان من الدنيا وغرق فيها “فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدًا، وفيه شعثٌ لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرضٌ لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روح الحياة، ويذوق طعمها، ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر”[مدارج السالكين – ابن القيم].

كيف يبلغ الإنسان الكمال في عبوديته لربه تبارك وتعالى؟

إذا نظرنا إلى حقيقة العبودية في الإنسان، سنجد أنّ فيه “عبوديتين: عبودية غير اختيارية (وذلك أنه تحت سلطان الله وقدره، فهو الذي أوجده وهو الذي يقبض روحه وهو الذي يُقدِّر عليه الأقدار) وعبودية اختيارية (وهي الالتزام بالتكليف الشرعي)، فلا يوجد إنسان قادرٌ على مخالفة العبودية غير الاختيارية، بينما تكثر المخالفة في العبودية الاختيارية بمخالفة الشريعة التي أنزلها الله، والجمع بين هاتين العبوديتين هو غاية ما خُلق الإنسان لأجله، إذ إنّ المقصد الشرعي من وضع الشريعة: إخراج المكلّف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختيارًا كما هو عبدٌ لله اضطرارًا -كما قال الشاطبي رحمه الله تعالى-” [بوصلة المصلح – أحمد السيد].

فعندما تصبح العبودية لله جل وعلا اختيار العبد، فإنه قد بلغ أعلى مراتب العبودية، وأسمى درجات التزكية، حيث إنه روَّض نفسه حتى أذعنت تمامًا لروحه، وانسلَّت عن طينيته، بل سما على عبودية الملائكة لأنه بلغ تلك المرتبة مع منازعته شهواته بخلاف الملائكة النورانية، فكانت مساجده منفذًا واسعًا لبلوغ غاية العبودية لله رب العالمين.

ختامًا

إنّ العبودية لله رب العالمين تنطوي على معاني عظيمة وسامية، فهي منتهى الغاية من الخلق، وقد قال الله جل شأنه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:٥٦]، وكانت دعوة الأنبياء كل الأنبياء هي عبادة الله وحده والإخلاص له، فقد قال الله تعالى {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:٣٦]، وجعل سبحانه وتعالى أعظم مقامات العبودية في السجود، وجعل السجود في الإنسان لا يتم إلا على سبعة آراب وأعضاء، ثم خصَّ تخصيصًا استثنائيًا منفردًا هذه المساجد له، لتكون تمام العبودية له تبارك وتعالى لأنها مفاتح عبوديات النفس، فلا تجحدوا نعمة الله عليكم بأن تدعوا مع الله أحدًا.