على جبال الناصرة

“الشيكون”.. توثيقٌ فنّيٌ للاستيطان

معرض يصور بداية الإستيطان...

2022-11-21

في عام 1957، صوّر ناتان جروس فيلماً وثائقيّاً حول بداية الاستيطان في “كريات نتسيرت”، أي قرية الناصرة، لصالح مصنع الدعاية الصهيونيّة. اعتمد الفيلم على شهادة طفل وصل إلى أرض فلسطين عبر البحر، ونقلوه وعائلته بالحافلة إلى الناصرة، تلك المدينة المقدّسة الّتي تعلّم عنها في مدرسته المسيحيّة الأوروبّيّة. خشيت والدة الطفل المتحدّث أن تكون البلدة العربيّة “المتخلّفة” الكثيرة الكنائس هي مسكنها الجديد، لكنّها سرعان ما فهمت أنّ هذه ستكون الجارة فقط.

يصوّر الفيلم تشييد المباني المتعدّدة الطوابق والبيوت، الّتي سُمّي كلّ مبنًى منها “شيكون”، وتعني بالعبريّة توفير المسكن على يد جهة رسميّة حكوميّة، أو المسكن الرخيص في مبنًى متعدّد الشقق والطوابق. كان أوّل هذه “الشيكونات” الّتي بناها البنّاؤون العرب متاخماً للناصرة، وقد حجب عن المدينة الجليليّة ضوء الشمس الأوّل في الصباح. توسّعت القرية الجديدة بمرور السنوات، وبدأ المهاجرون اليهود يفدون إليها أكثر فأكثر، ازدادت شيكوناتها ومبانيها ومصانعها الصغيرة، والتهمت خلال ذلك التطوّر آلاف الدونمات من الناصرة والقرى المجاورة لها، وأُعلن إقامة سلطة حكم محلّيّ فيها في عام 1963، في ما سُمّيت مدينة في عام 1974.

موقعها على الجزء الشرقيّ من جبال الجليل الأسفل، وجوارها للناصرة منحها اسم “الناصرة العليا”، وقد سقط عنها لاحقاً وتغيّر كي يقطع حبل السرّة الّذي يصلها بالمدينة العربيّة الفلسطينيّة، برغبة من رئيس بلديّتها ومعظم سكّانها. التصق مسمّى ’الشيكون‘ بالمدينة المتوسّعة، وبات يعني ضمناً تلك المدينة على لساننا نحن سكّان لواء الناصرة، فلم نكلّف أنفسنا عناء تسميتها باسمها الرسميّ، وكان يكفينا أن نقول “الشيكون” لنعلم مقاصد بعضنا بعضاً في الحديث. لم يكن اختيار الاسم اعتباطيّاً، فمنذ نشأتها لم يكن سكّان الناصرة وقرى الجوار يألفون هذا النوع من المساكن؛ فأصبح مميّزاً لها واسمها البديل.

كنّا صغاراً في قرًى لم تعرف يوماً شكل الإسكان الّذي يجتمع فيه الغرباء في حيّز سكنيّ يتشاطرون الدرج. كنّا نرى في ’الشيكون‘ عالماً غريباً، وسكّانه من العرب كمن أتى من فضاء آخر بعيد، نسألهم عن جيرانهم اليهود، ونقنع أنفسنا باختلاف أشكالهم. لم يكن “الشيكون” مجرّد الاسم العبريّ لمبنًى متعدّد الشقق، بل كان كناية عن الآخر المختلف المثير.

كان ’الشيكون‘ غريباً في شكله ومحتواه، تفوح من بيوته رائحة نبات السيلاري، ولغات غربيّة تنطلق من الراديوهات أو التلفزيونات، الّتي تعدّت على حيّز الدرج واختلطت فيه. تعرّفتُ هذه التفاصيل في مرحلة دراستي الثانويّة، حينما كنت – ككلّ أولاد حارتي – أمشي صعوداً مجتازة حرشاً صغيراً، متّجهة إلى محطّة الحافلات المحاذية للشيكونات، أو حينما كنت أحظى بفرصة نادرة لزيارة المجمّع التجاريّ «راسكو»، الّذي يحجب هو الآخر نور الشروق عن حارتنا، تصدح فيه أصوات الموسيقى الشرقيّة العبريّة، ورائحة فلافل لا يشبهنا، وعلى حوافّ حوانيته آثار تبوّل زوّار يترنّحون في ساحته المغطّاة بالبلاستيك بعد انتصاف الليل.

تطلّ مدينة الشيكونات على الناصرة والقرى المجاورة من أعلى، وكأنّها عين تراقب ما يحدث، تحاصر المساحات العربيّة وتخنقها، تسلب أرضها، وتتعدّى على ما هو أبعد من ذلك.

“الشيكون” في شريط الذكريات

يأتي الفنّان حنّا قبطي وعدسته لينبشا معاً شريطاً من ذكريات الطفولة، ذكريات كنت أرى فيها مجمّع الماء في مدينة الشيكونات كحبّة بوظة، أتابع كيف تتغيّر ألوان أضوائه ليلاً من شبّاك مطبخنا، أستمع الى صوت جرس المدرسة القريبة، الّتي كان طلّابها يفقدون كرات القدم الّتي تتدحرج نحو الحرش، فيُصادرها أولاد حارتنا. ذكريات تسير بي إلى سنوات الثمانينات حين كنّا نرى مصانعهم وهي تتخلّص من قمامتها على مقربة من بيوتنا، ونعاني في ليالي الشتاء رائحة مياههم العادمة، الّتي تفيض في كروم الزيتون، وتختلط بماء المطر.

وُلد حنّا في الناصرة، وعاش جزءاً مهمّاً من حياته فيها، عايش – تماماً مثلي – كيفيّة توسّع “الشيكون”، وصار يسرق من الناصرة بهاء التسوّق فيها، ثمّ أمان العيش فيها.

في معرض الصور الفرديّ الأوّل لحنّا قبطي نرى كلّ ما نعرفه عن “الشيكون”، من مباني الطوابق المتعدّدة الّتي تحيطها حواكير من أتربة تخلو من النباتات سوى الروزمارين، وألعاب أطفال بهت لون المقعد البلاستيكيّ البرتقاليّ من على قواعدها الحديديّة، باحات خلفيّة مهملة، ونباتات صبّار تكبرني سنّاً، وممرّات معتمة بين البيوت، ومجمعات تجاريّة تبعث بعض الحياة في مدينة أسمنتيّة، وحدائق عامّة تخلو من المتنزّهين، وعربات تسوّق القادمين من دول الاتّحاد السوفييتيّ، ولافتات تخلّد أسماء موتى، وشرفات تتزيّن بحبال بلا غسيل، وأخرى تمتدّ بين طرفيها سلسلة أعلام صغيرة وكأنّ أصحاب البيت يصدّون عنهم عين الحسد بإسرائيليّتهم.

لا يوثّق حنّا قبطي “الشيكون” بشكله العمرانيّ، بل بهويّته وهويّتنا، بالندّيّة الّتي ولّدتها سياسات التوسّع الصهيونيّ على حساب الوجود الفلسطينيّ، فيفتتح المعرض عمل “هَوَس”، وهو 6 أطر يحمل كلٌّ منها 36 صورة صغيرة لعلم إسرائيل، وهو يرفرف عالياً في سماء المدينة المستميتة لإبراز هويّتها اليهوديّة. لم يكن هذا العمل هوس المصوّر بالعلم، بل هوس من نصبوا أعلاماً هائلة الحجم على خطوط التماس مع الحيّز العربيّ المحيط. وقد حرص حنّا على وضع خارطة المدينة لنرى كيف تتجاوز حدودها لتقضم بضعة دونمات من قلب الناصرة، وتمدّ يداً أخطبوطيّة لتنزع عن كفر كنّا آلاف الدونمات، وتبقى بين هذه وتلك مساحات بملكيّة عربيّة، تبدو مع تفاصيل هذه الخارطة كصورة أشعّة لجسم أصابه السرطان في موضعين متباعدين.

يصوّر حنّا ما تراه العين، ويكرّر التفاصيل ليحرّك في الأذهان ما لا تراه العين. صوره المشبعة بـ “الماروكروسثوبية” انعكاس لحياة السكّان “المرّوكيّين” – القادمين من دول شمال أفريقيا، والقادمين من روسيا وأثيوبيا. هذه الفئات الّتي تتذيّل تقسيمات المجتمع الإسرائيليّ الاستعماريّ، وتقع على هوامشه، وتبعد عن الرقيّ والفخامة والثقافة الأشكنازيّة؛ فـ “الشيكون” مدينة وليدة مخطّط تهويد الجليل، لم تكن يوماً محطّ أنظار الأثرياء؛ فهي بعيدة عن الشواطئ ودوائر الاقتصاد واتّخاذ القرار، ومحاطة بالعرب من جهاتها الأربع، ممّا يجعلها مجرّد بقعة سوداء جاءت لتعكّر صفو بحر عربيّ وتمنع امتداده وتوسّعه.

ذاكرة الفنّان

تجوّلت كاميرا حنّا في أحياء المدينة، وجاءت بالكثير من المعلومات الّتي تتكرّر في المدن الإسرائيليّة، مقابر عسكريّة ونصب تذكاريّة ولافتات تمنح الشوارع أسماء من حقبة جابوتنسكي ومائير وبيجن. وما من شكّ في أنّ اجتماع هذه الصور هو حفلة استحضار لذاكرة الفنّان، الّتي ترسّخت فيها صورة محدّدة عن معنى “الشيكون” وشكله، استحضار لمراهقة تجوّلت في بعض الشوارع والأحراش والملاعب، وطبعت صور المقارنة بحيّ الأقباط، وتعبير عن مشاعر مكتومة قد تحيا حين الوقوف على مطلّ نرى فيه الناصرة باكتمال مجدها.

إنّ كلّ ما نراه في صور حنّا هو علامات تجعل المشاهد يعي تماماً أنّ ما نراه ليس قرية أو مدينة أو حيّاً عربيّاً؛ ففي كلّ تفصيل سمات غريبة ولو أنّها مألوفة جدّاً، كلّها غرائب عن المشهد العامّ الّذي تنظر إليه الشيكونات من الأعلى، مثل البيوت المتراصّة، والأبنية العريقة من الحجر الأبيض والشبابيك الضخمة وأسطح القرميد، وكنيسة في قلب كلّ هذا. يتستّر وراء هذه الندّيّة العمرانيّة صراع قوميّ، ينطبخ منذ 65 عاماً على نار هادئة، تتراوح ما بين الديموغرافيا والخرائط الهيكليّة.

إلى جانب العشرات من الصور المعروضة بآليّة وإيقاعيّة تتطلّب الكثير من الصبر، يقدّم المعرض عمل فيديو، يتحدّث فيه الراوي عن طفولته الّتي بدأت تكوّن هويّتها في مدينة جديدة، حيث يخرج مع والدته إلى السوق حيث التجّار العرب، ويراقب هؤلاء الغرباء. يتحدّث الراوي عن والده وعن بناء مدينة ليربطنا بحكاية سبق أن ذكرناها حين قلنا: في عام 1957، صوّر ناتان جروس فيلماً وثائقيّاً حول بداية الاستيطان في “كريات نتسيرت”، أي قرية الناصرة، لصالح مصنع الدعاية الصهيونيّة.