ذات يوم من أيام الله، خطّ التاريخ سيرة أبطالٍ شهداء، عاصرت بنادقهم مختلف المعارك منذ البداية، ولازمت سيّرهم انتصاراً تلو الانتصار. تدرجوا في عملهم الجهادي حتى الثاني عشر من تموز 2006م، موعد اللقاء مع الشهادة الذي قلق الكثيرون منهم تفويته بعد اندحار الاحتلال عام 2000. وقفوا أمام عدوان همجي أسال الدمار واغتال البراءة والأحلام وهدم البيوت والقرى، وقفوا لوضع حد لعنجهية محتل تكسرت أمامهم، تحدوا الموت بالموت وأكملوا مسيرة لطالما حلموا فيها لنيل إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة وما بدلوا تبديلاً.
” الوفاق” تروي بعضاً من حكايا شهداء ومجاهدي الوعد الصادق الذين شاركوا في صد عنوان تموز، منهم من استشهد على أرض الجنوب، ومنهم من ارتقى في ساحات أخرى، على الدرب نفسه، استقت الصحيفة معلوماتها في روايتها لهذه الحكايا من جمعية “إحياء” لأثار الشهداء في لبنان.
الشيخ وسيم شريف.. بهشتي لبنان
الشهيد وسيم شريف، شهيد الوعد الصادق، الحوزوي الجامعي المنبري، صاحب الهالة النورانية، ذو الشخصية الكارزماتية التي تحدث عنها أستاذه العارف الشيخ “عبد الرسول إسحاقي” فقال: هذا الإنسان يذكرني بقدرات وإمكانات الشهيد بهشتي”.
نشأ الشهيد وترعرع في مسقط رأسه “اللَّبوة” في منطقة بعلبك الهرمل في لبنان، لأسرة ملتزمة ومحافظة، وعُرف بالذكاء والفطنة، وتميز بوعيه المبكر، واتصف بالقناعة والرضى. كما تأثّر بوالدته التي كانت تقرأ في مجالس العزاء، فالتزم بالتكليف الشرعي منذ كان في الثامنة. وخلال عمره القصير (24 سنة) كان مواظباً على الأعمال المستحبة من أدعية وأذكار، وكثير التردد إلى المساجد، خاصةً المهجورة والنائية، وقد أسس جمعية لهذا الغرض، كما ساهم حبّه لأهل البيت النبوي (ع) بتمسكه لاحقاً بولاية الفقيه باعتبارها امتداداً لولايتهم (ع).
بعد انتهائه من دراسته الثانوية، التحق الشهيد إلى جانب دراسته الجامعية بالدراسة الحوزوية، إذ تتلمذ على الشيخ المرحوم الإسحاقي، الذي كان يصفه ب”بهشتي لبنان”، وقد كان متفوقاً في جميع المجالات التي درس فيها، ولم يمهله القدر لنيل الإجازة الجامعية إذ التحق بركب الشهداء. ثم انضم الشهيد مبكراً إلى صفوف المجاهدين، كما شارك في مختلف النشاطات الثقافية والكشفية والتربوية، وفي حرب تموز 2006م كان من أوائل الذين لبوا نداء الجهاد، فمضى قبل أن يتم مشروع خطبته.
الشهيد عاشق الشعر والكتابة
تميّز الشهيد بحبه للعلم والمعرفة وشغفه الشديد بالمطالعة، فقد قرأ عشرات الكتب الدينية والثقافية، واستمع لعشرات المحاضرات، وكان يتقن اللغة الفارسية والإنكليزية، ويتمتع بمواهب في الكتابة، والشعر والخط والرسم، وله أناشيد ومقطوعات نثرية، منها مسرحية “سيدتي مريم” وهي عبارة عن حوار بين السيدة مريم (ع)، والسيدة نرجس والدة الإمام المنتظر(عج).
الاهتمام بعوائل المجاهدين
يروي الوالد خاطرة عن الشهيد سبقت استشهاده بساعاتٍ قليلة، إذ طلب منه تفقد عائلة أحد المجاهدين بعدما تناهى على مسامعه حاجتها للمال، طالباً منه الإسراع بتقديم المساعدة المالية لها وإحضارها لمنزل زوجته كي لا تبقى بمفردها، تفاجأت الزوجة بالأمر وأخذت تدعو الله أن يحمي ويدفع السوء عن ذلك الشاب الذي عرفته بأنه كان يجمع الشباب ويعطيهم دروساً حول الشهادة.
مساندة ودعم مستمر
يروي أحد ألإخوة من أصدقاء الشهيد عما فعله له بعد تراجعه عن الذهاب برحلة تكريمية لزيارة مقام الإمام الرضا(ع)، بسبب وضعه الصحي، فما كان من الشهيد إلا أن رافقه بعد استدانته مبلغ السفر الذي لم يكن يملكه، ولبث الطمأنينة وإدخال السرور لقلب صديقه.
عندما اختير شهيداً
وقد علم الله عزّ وجلّ ما في نفسه. وما إن بدأ العدوان الإسرائيلي حتى كان وأصدقاءه المجاهدين يرابطون في خراج بلدة صريفا الجنوبية. وفي ليل الثامن عشر من شهر تموز، فكر الإخوة بترك المكان إلا أنهم آثروا الاستخارة قبل أن يغادروه، فاستخار لهم الشيخ وسيم بالقرآن الكريم فكانت الآية: ﴿بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى﴾، فأخبرهم الشيخ وسيم أن هذه الحرب طويلة وسيسقط فيها الكثير من الشهداء ولكن الغلبة ستكون لرجال المقاومة ولكنهم لن يشهدوا الانتصار لأنها ليلة استشهادهم وعليهم أن يتهيّأوا لها، فعكفوا على الصلاة والدعاء حتى كانت الساعة الثانية من بعد منتصف الليل، حين استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي ما أدّى إلى استشهادهم على الفور، وقد بقي الجثمان الطاهر للشهيد حوالي ستة وعشرين يوماً تحت الركام، نقل بعدها إلى بلدته في 15/8/2006م ليوارى الثرى، وقد امتزج جزء من جثمانه الطاهر بثرى أرض الجنوب، ثرى بلدة صريفا.