أدب المقاومة

ميلاد “دقة” في حكايات “غسان كنفاني”

في قراءة موازية لرمزية الشمس ودخولها القصر في حكاية كنفاني، يصور الأسير وليد دقة في رسوماته، ضوء القمر الذي يتسرب إلى السجن.

2023-07-21

تظهر الطفولة في الأدب الفلسطيني بوصفها انعكاساً لصورة المقاومة، كما في الواقع الفلسطيني، وهو ما منح فردانية لأعمال أيقونة أدب المقاومة الفلسطيني غسان كنفاني (1936 – 1972)؛ من حكايات وروايات لم تغفل عن الطفل الفلسطيني وجهاً حاضراً في ساحة النضال ضد الاستعمار، من شخصية “خلدون” في رواية “عائد إلى حيفا” (1969)، وسعيد وأخيه سعد في رواية “أم سعد” (1969)، وغيرهم من صور الطفولة. يظهر الطفل في حكايات كنفاني ضحيةً أحياناً، وشاهداً على جرائم الاستعمار أحياناً أخرى، حتى كانت صورة الطفولة المقاومة وليدة كليهما، حتى كان اغتياله مكسباً للعدو لمحاولة طمس فكره الذي انعكس جلياً في مساهماته الأدبية.

المقاومة في الطفولة الفلسطينية

تعني الطفولة في أدب كنفاني الأمل والتحرير، ولعل علاقته الأبوية بابنة شقيقته لميس ساعدته في بلورة معنى الطفولة بأوجهها المتعددة في حكاياته، فكان الطفل الفلسطيني في مجالات كثيرة منارة النضال ومفتاح العودة والتحرير. وكما استلهم كنفاني صورة الطفولة الفلسطينية من طفولة لميا، والطفل الذي حبِس داخله في المنفى خارج الوطن، كان للمنفى داخل حدود الوطن في سجون الاستعمار فعل مماثل في عكس صورة الطفولة المقاومة.

بالرغم من الجدران المطْبِقة، ولِدت ابنة الأسير الفلسطيني وليد دقة، ميلاد، في عام 2019؛ لتشكل نموذجاً حياً للطفولة الساعية إلى حرية والدها. كان مجيء ميلاد وليد دقة إلى العالم عن طريق نطفة محررة بمنزلة صفعة للاستعمار الصهيوني، وأصبحنا نلمح ما عول عليه كنفاني في حكاياته واقعاً في نموذج الأطفال، الذي يخرج إلى الواقع الفلسطيني بصوته وفعله المقاوم، وأصبحت الطفولة حاضرة في ساحات الاعتصام والمطالبة بالحرية، لنقرأ ذلك في ميلاد، ابنة الأسير الفلسطيني الأقدم في سجون الاستعمار، وليد دقة.

وكما كان منفى كنفاني خارج وطنه دافعاً مصحوباً بألم الإغتراب واللجوء، في نشوء علاقته بمعنى الطفولة الفلسطينية ليبلورها في أدبه، فقد كان منفى دقة في سجون الاستعمار دافعاً إلى ارتباطه بطفلته. ورغم أسوار السجن العالية، والتحفظ على والدها الأسير، ورغم وضعه الصحي المتدهور، توطدت علاقته بابنته لتكون لوالدها الصوت والجسد خارج السجن، ولتقف رغم سنها الصغيرة التي تقارب ثلاثة أعوام مطالبةً بوالدها.

تشكل ميلاد قصة من حكايات الطفولة الفلسطينية المقاومة التي كرّسها كنفاني في أعماله الأدبية، باسمها ميلاد الذي اقترن باسم والدها الأسير؛ ليصبح اسمها ميلاد وليد دقة، الذي يقول والدها الأسير وليد دقة عنه: “جعلت من اسمي عبارة مفيدة – ميلاد وليد دقة”.

اقتفاء أثر الطفولة

يعرج كنفاني في رواية “أم سعد”، وتحديداً في حكاية “بندقية في مخيم”، على شخصية الطفل الفلسطيني المقاوم، في شخصيتَي سعد وسعيد، يبرز نضال المرأة الفلسطينية التي تحقق إنجازها في أبنائها، وهي تعول على وعيهم وتربية النضال فيهم من أجل الوطن.

يقول أبو سعد في الحكاية: “هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلف وفلسطين تأخد”. يتجلى وعي المرأة الفلسطينية أيضاً في سناء دقة؛ زوجة الأسير الفلسطيني، وتربية الوعي في طفلتهما ميلاد؛ لتكون شاهدة على فظائع الاستعمار ضد الأسرى الفلسطينيين بعامة، ووالدها بخاصة.

وقد أبدع كنفاني في تأسيسه للأدب الفلسطيني ما بعد النكبة، انطلاقاً من تكريس الوعي بما هو قادم، ولعل النكبة وما ترتب عليها من لجوء رافق المأساة، انشطر عنها المقاومة التي وجدت منافذها عبر الفلسطينيين كافة، بمَنْ في ذلك الأطفال؛ فكان المخيم على سبيل المثال منطلق ولادة الكفاح الفلسطيني والطفولة بصورتها المقاوِمة. تقول أم سعد في الحكاية: “عينك عالشباب في المخيم، كل واحد منهم يحمل مرتينة أو رشاشاً، والكاكي في كل بيت، هل رأيت أفعال سعد”.

طفولة شاهدة على المأساة

تنعكس صورة الطفولة، الشاهدة على مأساة استعمار فلسطين في أدب كنفاني، بتوثيق المأساة الواقعة نفسياً وجسدياً على الطفل الفلسطيني، في رواية “كان يومذاك طفلاً” التي يستعرض فيها كنفاني الطفل بوصفه ضحيةً من ضحايا الإبادات الجماعية التي يمارسها الاستعمار في حق الشعب الفلسطيني: “وروت امرأة بدينة، كانت قد ذهبت إلى الحج قبل عام واحد، كيف نسف اليهود في يافا داراً للأيتام، وكيف تناثرت جثث الأطفال على فوهة شارع “إسكندر عوض” ممزوجة بحبات البرتقال المفزورة، فقد وضع اللغم في سيارة شحن مملوءة بالبرتقال، أوقِفَت أمام درج الميتم”.

تتسع صورة الطفولة الفلسطينية في الرواية لتعكس الطفولة الشاهدة على الإبادة الجماعية الواقعة على الشعب الفلسطيني، “وقال القائد القصير لجندي وقف إلى جانبه: هات الطفل (…) ضرب القائد عصاه السوداء على فخذه ضربة رقيقة، وكان الطفل واقفاً إلى جانبه غير واعٍ لأيما شيء (…) لينادي القائد جندية إسرائيلية، ويمنحها الإذن بقتل جميع الركاب في الباص الذي أنْزِل ركابه منه، البالغ عددهم 20 راكباً من بينهم الطفل، “سقطوا في الخندق، وغرقت وجوههم وأكفهم في الوحل، وقد تكوموا هناك كتلة متراصة واحدة مختلطة اختلاطاً دموياً، في ما كان خيط الدم الأحمر يتسرب مِنْ تحت أجسادهم، ويتجمع، وينساب مع جدول المياه إلى الجنوب”.

لم توثق الرواية هوية اسمية للطفل، وهو بذلك شخصية حاضرة وشاهدة على المأساة التي ما زالت معيشة  في الواقع الفلسطيني، في كل مكان وزمان وحرب، يقول الجندي الإسرائيلي ممسكاً بأذن الطفل بقسوة: “هل رأيت؟

تذكر هذا جيداً وأنت تحكي القصة…”، لترسم الحكاية واقع ذاكرة الطفل الفلسطيني التي تشكلت من عوامل القهر والظلم التي مارستها إسرائيل على الشعب الفلسطيني، ولتكون بذلك منطلق المقاومة التي تمهدت من ذاكرة الطفولة؛ لتأخذ شخصية الطفل في ذات الرواية بعْدَ الوعي بالإبادة، التي قامت بها الجندية بحضور جمع من الجنود، بعد أن يأمره القائد بالجري بسرعة عالية، ويتفادى إطلاق النار عليه، ودون أن يلتفت، “ورغم ذلك، فقد وصلت إلى أذنيه أصوات ضحكاتهم الصاخبة فوقف، لم يَدْرِ كيف حدث ذلك ولماذا، ولكنه وقف، ووضع كفيه في جيبَي سرواله، وسار بخطوات ثابتة هادئة وسط الطريق، دون أن يلتفت إلى الوراء”.

لحظة الوقوف تعني الإدراك والوعي، وهو ما سيترتب عليه العودة بصورة المقاومة إلى جيل الأطفال الفلسطينيين الصاعد، خاصةً أن ذاكرة الطفل الفلسطيني أصبحت متوارثة عن أجيال إما شاهدة على الرواية وإما ضحية مِنْ ضحاياها، وهي رواية تمثلت بحقيقتها المروعة التي تأسست مِنْ إبادة إسرائيل للشعب الفلسطيني.

ميلاد دقة… القنديل الصغير

في حكاية “القنديل الصغير”، قدم كنفاني صورة فريدة للطفولة، جعل فيها الطفل الفلسطيني مفتاح الأمل في التحرير. تنصب الحكاية على قصة ابنة الملك الصغيرة التي يتوفى والدها، تاركاً لها وصية عليها أن تنفذها لتصبح ملكة، “كي تصبحي ملكة يجب أن تحملي الشمس إلى القصر… وإلا فستقضين حياتك في صندوق صغير مغلق”.

تسعى الأميرة الصغيرة إلى أن تحضر الشمس إلى القصر، فتتسلق الجبل لتكتشف أن الشمس بعيدة، فتعود إلى القصر وتغلق غرفتها بالمفتاح، وبعد يومين تجد ورقة صغيرة أسفل الباب مكتوباً فيها: “لن تستطيعي أن تجدي الشمس في غرفة مغلقة”.

هكذا تبدأ الأميرة تسعى جاهدة إلى إحضار الشمس إلى القصر، بعد أن تصْدِر بياناً بأن مَنْ يساعدها سينال مكافأة عظيمة، لكن لا أحد يساعدها لاستحالة الأمر، عدا رجلاً عجوزاً كان قد أتى إلى القصر مراراً حاملاً قنديلاً، ويطلب رؤية الأميرة، لكن الحرس منعوه، حتى لمحته الأميرة ذات مرة مِنْ بعيد هو وقنديله. تنتظر الأميرة عودته إلى أن تأمر الحرس بالقبض على كل مَنْ يحمل قنديلاً في المدينة. تنتظر الأميرة أن يعود حرسها لتشاهد منظراً عجيباً، وهو آلاف الرجال الذين يحملون القناديل الصغيرة، حتى وصل جميعهم إلى القصر ولم يسعهم، فأمرت بأن تهدم أسوار القصر العالية والأبواب ليدخل الجميع؛ لتكون الحكمة أنها لن تتمكن وحدها مِنْ حمل كل هذه القناديل وكذلك الشمس، وحين استيقظت صباحاً وجدت أن الشمس دخلت القصر الذي هدِمَتْ جدرانه وأبوابه.

يعول كنفاني في حكايته على الطفولة في تحقيق ما لا يمكن تحقيقه لوهلة، وهو جلب الشمس إلى القصر، ما يوازي أن إمكانية تحرير فلسطين يمكن أن تتحقق على أيدي الأطفال الفلسطينيين، فالطفولة في فلسطين لا تسير وفق واقعها الطبيعي في العالَم. كما أن تجرد الأميرة الطفلة مِنْ ممارسة طفولتها لتقتصر حياتها على مَنْ هم حولها في حدود القصر، يقارب الواقع الفلسطيني بتجريد الأطفال مِنْ طفولتهم في ظل الاستعمار؛ ليقع على عاتقهم ما وقع على عاتق الأميرة مِنْ تحد لتحقيق ما يوازي دخول الشمس إلى القصر، وهو التحرير والنصر.

تأتي حكاية كنفاني هذه بعد هزيمة حزيران 1967، التي خاب فيها أمل الشعب الفلسطيني بالحكومات العربية؛ لنلمح أثر إمكانية تحقيق النصر وتجاوز الهزيمة بالتعويل على الطفل الفلسطيني القادر على نيل حريته بيده. تنعكس ميلاد دقة وغيرها مِنْ الأطفال في صورة الأميرة في حكاية “القنديل الصغير”، لتكون بذلك قنديل والدها وشمسه خارج السجن، فحضورها رغم الأسوار العالية يعني الإصرار على ما تحاول إسرائيل طمسه في الجيل الصاعد مِنَ الأطفال الفلسطينيين، وهو ما يضفي على الطفولة الفلسطينية الوعي الذي لا يمكن تغييبه.

وفي قراءة موازية لرمزية الشمس ودخولها القصر في حكاية كنفاني، يصور الأسير وليد دقة في رسوماته التي نجح في إيصالها إلى الإعلام، ضوء القمر الذي يتسرب إلى السجن، كناية عن الأمل في الحرية التي يأمل أن تطوله وتطول غيره مِنَ الأسرى. مأساة الأسر التي يعيشها ورفاقه ترتب عليها نسيانهم شكل القمر وضوءه، في حين تصور الرسمة الأخرى صورة طفلة صغيرة على أرجوحتها داخل فضاء السجن المغلق، والقمر بضوئه يعلوها، وربما قصد دقة الإحالة لابنته ميلاد التي يعدها قمره خارج السجن.

مها زيادة

باحثة فلسطينية

المصدر: الوفاق/ وكالات