منذ اللحظة الأولى لبداية الرواية ــ الفيلم التي تحمل عنوان «ثلاثة أيّام وعقدان» (بدأ بثّها في أيار/ مايو الماضي وعُرضت حلقتها العاشرة والأخيرة في 17 تموز/ يوليو الحالي تحت عنوان «إذا جاء نصرالله»)، عمل المعنيّون على صناعة سلسلة وثائقية غير تقليدية في الشكل والمضمون.
أمّا بالنسبة إلى الهيكلية العامة للسلسلة، فكانت قائمة على توليف موازٍ ينتقل بين طرفَيْ حدود الرواية، أي بين الشريط المحتل وشمال فلسطين المحتلة في العمل العسكري والأمني والشعبي، وبين الضاحية وتل أبيب في اتخاذ القرار، وبين دمشق وواشنطن والأمم المتحدة في مفاوضات تنفيذ القرار 425، فشكّلت هذه العناصر خطوط الرواية والتقَتْ كلُّها في نتيجة واحدة: التحرير والانسحاب تحت النار. كانت هذه نقطة فارقة في هيكلية العمل الوثائقي، وهنا لن يستطيع المشاهد التفاعل معها بمظهرها الخارجي، لكنها، بدون أدنى شك، تؤتي أُكُلَها في صميم لا وعي المشاهد وعقله الباطني ومشاعره وأحاسيسه. عند مشاهدتك لهذه السلسلة لن تجد عنصر الإبهار في الشكل، فالعنصر الغرافيكي كان في غاية البساطة ولم يكن في السلسلة أثر يُذكر للمؤثرات البصرية أو المحاكاة التصويرية، لا بل إنّ ما صُنع في الحواسيب من خرائط وجغرافيا ثلاثية الأبعاد لا يمكن وضعه ضمن لائحة الإبهار (باعتقادي أن ذلك كان مقصوداً)، بهدف الربط على أحاسيس المشاهد، لتوجيه السير المنطقي للقصة بالطريقة التي أرادها صانعو هذه السلسلة.
في المضمون، أوّل ما يلفت انتباهك هو الاهتمام بالتفاصيل إلى أقصى حدود. ففي غالبية الحلقات كنا أمام كشف لمجريات دقيقة للغاية وصلت إلى حد الحديث عن ما دار في ذهن إيهود باراك، وما كان يظنه شاوول موفاز، وما اعتقده غابي أشكنازي، حتى نقد وتحليل النظرات التي كان يتمُّ تبادلها في جلسات قادة جيش العدو، أو الحديث مثلاً عن أهمية الطريق التي تمَّ تحسينها أثناء التحضير لعملية كوكبا ودورها في إرسال المجاهدين إلى بلدة الخيام قبل وصول الناس، كما كان ذكر مجريات التحرير في كل نقطة وزاروب وشارع وحي وقرية، وذلك الرجل الذي استقبل الناس لحظة التحرير وأراد إطعامهم العسل من منحله، وذكر أسماء أشخاص ما كان أحد ليسمع بهم، إضافة إلى تلك المرأة التي تحدثت عن ارتشافها القهوة مع رفيقاتها عند النهر يوم قرَّرت الدخول معهنَّ إلى القنطرة. جاء ذلك وكأن التحرير كان البارحة ولم يمرّ عليه قرابة العقدين من الزمن، الأمر الذي يعكس الذاكرة الحية التي ما زالت تحفر عميقاً في أذهان أبطالها.
من ناحية أخرى، أتى هذا العمل على ذكر محاضر جلسات أجراها كبار قادة العدو بتفاصيلها الدقيقة حتى ما كان يفكر فيه الحاضرون في تلك الجلسات وما كانوا ينوون فعله، منها محضر الجلسة التي عُقدت في «شومرا» بين باراك وقادة جيش العدو. لا بل أكثر من ذلك، فإنّ هذه السلسلة ذكرت قصة امتلاك الصهاينة معلومات عن تحركات المعاون الجهادي في حزب الله آنذاك الشهيد القائد الحاج عماد مغنية، والإمكانية التي كانت متوفرة لديهم لاغتياله، وامتناعهم عن ذلك امتثالاً لأوامر باراك الذي فضّل مكاسبه الشخصية في مرحلة حرجة في تاريخ إسرائيل. وبالتالي، جاءت هذه السلسلة لإبراز المستوى المعلوماتي المهم الذي وصلت إليه المقاومة في «حرب الأدمغة» التي واكبت العسكر والأمن طوال عقدين من الزمن، فكانت هذه النقطة أحد أسرار انتصاراتها بدون شك.
في المضمون أيضاً، كانت كل حلقة تتميز بنهاية جذابة تُطرح فيها الأسئلة وتُقدّم الفرضيات في مشهد لم يخلُ من مساحات التصوير المميز والمونتاج الراقي، وكأنّك أمام نفحة درامية مليئة بالأحاسيس والعواطف يحيط بها وابل من صواريخ معلوماتية دقيقة، فكانت نهاية كل حلقة كفيلة بِوَضْعِ موعدِ بثِّ الحلقة اللاحقة على لائحة انتظار المُشاهد، بحبّ وشوق كبيرين. انتهت حلقات «ثلاثة أيام وعقدان» كما انتهت تلك الأيام المباركة عام 2000، بِعدم اختصار التحرير بمقاومة حزب الله، بل اعتبرت أنّ التحرير أتى نتيجة مقاومة الشعب اللبناني بمختلف أطيافه وأحزابه وبصمود شعبه وكل إنسان حرّ في هذا البلد، كما جاء على لسان الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله في مهرجان التحرير عام 2000، وفتحت باباً أمام قضية الأمة الأولى: تحرير فلسطين.
كانت السلسلة، في الدرجة الأولى، رواية لتاريخ حقبة مهمة جداً من تاريخ لبنان، كُتبت على ورقة الحقيقة التي لا تقبل الريب ولا الشك، وقطعت الطريق أمام هواة تحريف التاريخ.