الحسين نور ونبراس وعاشوراء درس والمجالس مدارس

تستوقفنا هذه الذكرى الأليمة لنستذكر احداثا حزينة من تاريخنا الإسلامي، حيث تتوهج حرارة حبّ الحسين في قلوب المؤمنين وتتفاعل العاطفة الوجدانية والانسانية في إستحضار مشاهد البطولة والآباء والمواقف التاريخية

لندن – د. أحمد الزين

مع دخول شهر محرم الحرام لعام 1445 للهجرة، تعيش الأمّة الإسلامية الموالية هذه الأيام أجواء حسينية عاشورائية يخيّم عليها الحزن والدمع ولون السواد واللطم على الصدور على مصيبة سيد الشهداء أبي الاحرار أبي عبدالله الحسين (ع) إحياء لذكراه الخالدة حيث تُقام المجالس والمواكب والعشائر الحسينية في معظم بقاع العالم والتي تعتبر من اهم المفاهيم الاسلامية التي رسخت اهمية الثبات على الحق ونصرة الدين والانسانية والتصدي للظلم والطغيان والفساد والاستبداد، وهي مجموعة من القيم والمثل التي يترسخ فيها تعظيم وتعزيز وتكريم مقامات أهل البيت (ع) أمام العالم، ويرمز الى تأييد الحسين (ع) في ثورته المباركة على الظلم والظالمين والطغاة والتعبير عن أعمق مشاعر الاستنكار والسخط ضد أعداء الدين والحق والعدل.

ومن مصاديق احياء المراسم العاشورائية هو  أولا: إحياء أمر أهل البيت (ع) وتعلم علومهم وتعليمها للناس، فالامام علي الرضا (ع) قال: “.. فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لتبعونا”، أي ان الاقتداء والالتزام والاتباع لأهل البيت (ع) وإحياء أمرهم هو الرسالة الإسلامية الخالصة النقية السليمة دون تحريف أو تزييف أو تزوير.

وثانيا: هو التعبير عن مضمون الحزن والدمع والألم على استشهاد الإمام الحسين (ع) الذي قتله الطاغية يزيد بن معاوية في العاشر من شهر محرم عام 61 للهجرة، لانه رفض مبايعته، حيث قال: ((إن يزيد فاسق فاجر شارب للخمر قاتل للنفس المحترمة ومثلي لا يبايع مثله)). ومفهوم “مثلي لا يبايع مثله” هو درس ونبراس لنا لنجدد العهد والبيعة والولاء للامام الحسين (ع)، والذي أكدّ عليه رسول الله محمد (ص) وائمة أهل البيت (ع)، حيث قال الامام الصادق (ع): ((.. فاحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا)) . وهكذا، يبقى الحسين شعلة وضاءة تنير للبشرية طريقها نحو الخير والبرّ ونشر الفضيلة وإفشاء السلام على مرّ التاريخ والازمان والعصور. وكما قال الشاعر:

هلّ المحرم فأستهلت أدمعي ……. وورى زِناد الحزن بين الأضلع

لذا، تستوقفنا هذه الذكرى الأليمة لنستذكر احداثا حزينة من تاريخنا الإسلامي، حيث تتوهج حرارة حبّ الحسين في قلوب المؤمنين وتتفاعل العاطفة الوجدانية والانسانية في إستحضار مشاهد البطولة والآباء والمواقف التاريخية وملاحم الإستشهاد والتضحيات التي قدمها وأهل بيته (ع) وأصحابه الابرار في واقعة كربلاء بالعراق التي حدثت نتيجة تراكمات باطلة وممارسات خاطئة لحكام بني أمية الذين أظهروا خبثهم وحقدهم على الرسول محمد (ص) ورسالته.. وسيّطر عليهم الجهل والأنانية وحبّ السلطة والمال وأمعنوا في المفاسد والفساد والعتو والطغيان وعدم المعرفة بأحكام الإسلام وقوانين الشريعة المحمدية الاصيلة.. فكانت من تداعياتها السقوط في الرذيلة والإنحلال الإخلاقي وإنحراف الامة عن مسار الإيمان والعبادة والقيم الدينية والاخلاقية والإنسانية..

وأنحرفوا عن جادة الطريق القويم الذي رسمه لهم النبي محمد (ص) فانجرفوا فِي مهاوي الكُفر والشرك والغي والضَّلال وعادوا الى زمن الجاهلية والصنمية والوحشية.

لهذه الحقائق التاريخية والواقع الأليم دفع الإمام الحسين (ع) بان يقوم بتكليفه الشرعي ونهضته المباركة حيث تصدى لإعوجاج الفكر وعمي البصيرة وتغييب العقيدة وسقوط كبار القوم وأتباعهم بمتاهات الدنيا وشرورها.. فكانت حركته الثورية من أجل أن يعيدهم الى صوابهم ورشدهم ويهديهم الى طريق النجاة والرشاد، ويقوّم مسارهم الى الطريق المستقيم طريق الهداية والإيمان والتقوى والقيم والمثل والاخلاق.. وبالتالي ليحفظ رسالة الإسلام من الدنس والرجس والتحريف والتشويه…

ولهذا بقيت نهضة الإمام الحسين (ع) خالدة على مدى التاريخ، وشكلت مدرسة ثورية تعلم الاجيال تلو الاجيال دروس الوفاء والآباء، والعطاء والفداء، والجهاد والتضحية والاستشهاد في سبيل الله لإحياء الدين.. وهي تتجدد كل عام وتستبطن فكر ثوري وثقافة واعية وحكم رشيد واستدلالات واقعية نستلهم منها عُـبـر ودروس بليغة عن أهمية الصراع بين الحق والباطل، والمنازعة بين الخير والشرّ، ومعرفة التباين بين النور والظلام، والتمييز بين المساواة والفساد وبين العدل والظلم..

لقد جسّد الامام الحسين (ع) بإستشهاده ارقى معاني الإيثار والتضحية واسمى آيات البذل والعطاء والفداء وأعظم معاني القيم والمبادىء الانسانية.. كما احيى بنهضته السنّة الالهية العظيمة وعقيدة الثبات والجهاد (هيهات منا الذلة)، وهي مجاهدة الظالمين ومقارعة الطغاة من الحكام الجائرين ومواجهتهم وقتالهم مهما علا شأنهم وقوتهم وجبروتهم وطغيانهم.. تعظيما للخالق في عبادته وتحكيما لشرعه، وتقديسا للدين وزرعا للمعروف وردعا للمنكر، وتحقيقا للعدل وسحقا للظلم وإنهاءً للفساد.. أمتثالاً لأمر الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} ﴿هود-113﴾..

لذلك إنتماؤنا وارتباطنا وحبّنا للحسين لا يتجسد في البكاء واللطم والندب ولبس السواد فقط بل بالاقتداء بإيمانه وجهاده وفكره وأخلاقه وسيرته الناصعة.. والسير على خطاه التغييرية ونهجه الإصلاحي في رفض كل أنواع الظلم والفساد والطغيان والاستبداد والاضطهاد.. والاستعداد للتضحية بكل غالٍ ونفيس، والعمل الحقيقي الفاعل في إصلاح انفسنا أولا، ثم إسرتنا ثانيا، ثم مجتمعنا وأمتنا والمجتمعات جميعا.. وتغيير واقع الأمّة المرتهن باصناف النزاعات والخلافات والانقسامات والحروب الى افضل الحال في الوحدة والتمكين والترابط والتكافل والتكاتف..

إمتثالا لامر الله تعالى لقوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} ﴿التوبة-52﴾، هو الشهادة في سبيل الله أو النصر في سبيل تحقيق هذه الاهداف السامية، وكما قال الحسين (ع): “فوالله ما خرجتُ الا لطلب الاصلاح في أمّة جدي”… “ألا ترون أن الحق لا يعمل به وأن الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله محقا فإني لا أرى الموت إلا سعادة ولا الحياة مع الظالمين إلا برما”. لذا، هذه الثورة الحسينية تمثل أنموذجا عالميا ومشروعا رساليا إنسانيا لا تخص المسلمين من اتباع اهل البيت (ع) فقط بل هي قدوة واسوة ورسالة حضارية ودرسا ناطقا يحاكي نفوس أحرار العالم التواقة للحرية والتحرر من الاحتلال والظلم والاستبداد والطغيان والعبودية في كل زمان ومكان.

يقول الإمام موسى الصدر: “‏عاشوراء في أبعادها تتجاوز محنة عاطفية ومأساة بشرية بل أنها نموذج بأسبابها وتفاصيلها ونتائجها تعلّم الأجيال، كلّ الأجيال وتفتح أمام الأجيال، كلّ الأجيال، طرق النجاة وطريق الخلاص”.

نعم، لا يزال الامتداد الاموي الجاهلي ونهج الحكم الاموي الطاغوتي الى اليوم هذا ممتدا ومتمثلا في حكام العرب الفاسقين الظالمين وحكام الخليج الفاسدين المجرمين الذين يحكمون شعويهم بالحديد والنار وبسياسة الترهيب والتخويف..

لذلك تتجسّد مفاهيم نهضة الإمام الحسين (ع) اليوم، في تثبيت حسن النية والارادة الصلبة والعزيمة لدعم حركات التحرر والمقاومة من اجل التعاون والتضامن والاستعداد للمواجهة والتصدي والصمود أمام أعداء الأمة والطغاة، والوقوف بعزم وقوة ضد غطرسة وهيمنة القوى الغربية والصهيونية الاستكبارية الذين ينشرون أفكار التطرف و العنصرية والشذوذ والمثلية ويشجعون على أعمال قوم لوط.. ويحرقون القرآن الكريم ويدنسون المقدسات ويمزقون المصاحف السماوية ويتحدون الله ورسوله وقوانينه وتشريعاته..

وبالتالي علينا أيضا ان نتصدى بكل ما أُوتينا من قوة وعزم على عدوان أمريكا والكيان الصهيوني والتحالف الغربي الدولي الذين يمارسون أبشع انواع الترويع والتخويف والتهديد والعنف والإرهاب والقتل والاغتيالات بدم بارد، ويرتكبون أبشع أنواع الدمار والهدم والإجرام في حق الأطفال والنساء والعجزة في فلسطين واليمن وسوريا والعراق ولبنان.. لتمرير مشروع “الشرق الاوسط الجديد”، و”صفقة القرن”، ومشروع “الديانات الابراهيمية”، وتأسيس تحالف عربي غربي يترأسه الكيان الصهيوني الغاصب من اجل توسيع سياسات التطبيع والخضوع والاستسلام على أيدي حكام الخليج من بني سعود وبني زايد وبني خليفة الطغاة المطبّعين داعمي الإرهاب ومؤسسي “داعش” الإرهابية.. الذين يعملون على تنفيذ اجندات المشروع الامريكي الصهيوني بإذكاء الحروب وإشعال الحرائق وإحتلال الاوطان وإخضاع شعوبها وتغيير الانظمة المعادية لها حماية لأمن دويلة “إسرائيل” – القاعدة العسكرية للغرب – وتقديم الدعم لها ماديا ولوجستيا للحفاظ على قوتها ولضمان تفوقها العسكري والنوعي في المنطقة، وتحقيقا لأطماعهم الاستعمارية والاقتصادية بالسيطرة والهيمنة ونهب النفط وثروات الشعوب ومصادرة قرارهم السيادي الحرّ.

فما احوج المستضعفون والمظلومون اليوم الى عقيدة الدين المحمدي الاصيل والفكر الكربلائي والجهاد الحسيني كي تثور وثثأر من المحتلين والطغاة والغزاة، وتردع المجرمين والظالمين والمستبدين.. وتطبق تطبيقا صادقا لشعار ومفهوم “كونوا حسينيين مؤمنين”، بهدف تحرير المقدسات الاسلامية، ووقف كل أنواع الحروب والفتن والمجازر، وإقامة قيم العدالة والمساواة والفضيلة، ، وحفظ الامن والسلام وحماية الإنسانية في الاوطان، والارتقاء بالبشرية نحو الثبات على مبادىء الاخلاق والشرف والمجد والشموخ والعلو والعزّة والكرامة ودوام انتصار الحق والعدل وتعزيز قيم الإيمان والإنسانية، ورفع راية الإسلام، وجعل كلمة الله هي العليا.