عبير شمص
ذات يوم من أيام الله، خطّ التاريخ سيرة أبطالٍ شهداء، عاصرت بنادقهم مختلف المعارك منذ البداية، ولازمت سيّرهم انتصاراً تلو الانتصار. تدرجوا في عملهم الجهادي حتى الثاني عشر من تموز 2006م، موعد اللقاء مع الشهادة الذي قلق الكثير منهم تفويته بعد اندحار الاحتلال عام 2000. وقفوا أمام عدوان همجي أسال الدماء واغتال البراءة والأحلام وهدم البيوت والقرى، وقفوا لوضع حد لعنجهية محتل تكسرت أمامهم، تحدوا الموت بالموت وأكملوا مسيرة لطالما حلموا فيها لنيل إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة وما بدلوا تبديلاً.
” الوفاق” تروي بعضاً من حكايا شهداء ومجاهدي الوعد الصادق الذين شاركوا في صد عنوان تموز، منهم من استشهد على أرض الجنوب، ومنهم من ارتقى في ساحات أخرى، على الدرب نفسه، استقت الصحيفة معلوماتها في روايتها لهذه الحكايا من جمعية “إحياء” لأثار الشهداء في لبنان، تتناول مقالة اليوم الشهيد السيد عاكف حسين الموسوي:
الشهيد تربى في أحضان عائلة مقاومة
كان التاسع من شهر آب لعام 1975م يوماً أنارت فيه ولادة الشهيد عاكف حسين الموسوي منزل الحاج “أبو علي” ابن بلدة “النبي شيث” البقاعية البار…
نشأ الشهيد (أبو هادي) في بلدته وبين ذويه مُحاطاً برعاية دينية واجتماعية وثقافية عالية، وسط عائلة تؤمن بالجهاد وتسير في هَدْيِهِ، وتقدّم فلذات الأكباد قرابين على ثغور الوطن…
تلقّى الشهيد علومه الأولى في مدرسة “النهضة” في قرية علي النهري، وتابع فيها مُجِداً حتى نال الشهادة المتوسطة، وانتقل بعدها إلى ثانوية “رياق” الرسمية لكنه لم يواصل دراسته فيها ليحصل على الشهادة الثانوية، بل تركها بعد مدة ليلتحق بحوزة الإمام المنتظر(عج) في مدينة “بعلبك”.
بدا السيد عاكف شهيداً مُذ كان طفلاً صغيراً! فكل من نظر إليه كان يلمح على سيمائه أمارات الميّممين وجوههم شطر لقاء الله، وغالباً ما ردّد أخوه علي هذا الكلام أمام والدته؛ وهي بدورها أدركت ذلك مُذ كان في الثامنة من عمره حينما كان يقف للصلاة فترقب خشوعه بعينها، ونهوضه من فراشه رغم شتاءات البقاع القاسية ليؤدي صلاة الليل باكياً، ليبقى على هذه الحال حتى طلوع الفجر، فيتوضأ كل يوم وينزل إلى مقام النبي شيث ليؤدي صلاته…
تأسى بشقيقه الشهيد عادل
بدأ السيد عاكف مشروعه الجهادي في سنٍّ مبكّرةً جداً، بُعيد أن رأى أخاه عادل يزفُّ شهيداً إثر مواجهة “ميدون” الكبرى عام 1988م، وذلك بانتسابه لكشافة الإمام المهدي(عج) حيث عمل لفترة فيها، ثم انتقل للعمل الجهادي في سن السادسة عشرة، وخضع لدورات عسكرية عدّة أهلّته للمشاركة في عمليات نوعية وبطولية عدّة، وضع خلالها الشهادة نُصب عينيه، داعياً الله أن يرزقه إياها…
وفي تموز 2006م، ودّع عاكف أهله وزوجته، وأوصاهم بالصبر وتحمُّل المصاعب فهو يعلم يقيناً أنه لن يعود، وخرج متوجهاً إلى بلدة “عيناثا”، لم تكن الطريق إلى هناك سهلة، بل وصل إليها بأعجوبة، راح يستقلُّ السيارات المتوجّهة من النبي شيت(ع) إلى ذات وجهته، وعندما تعترضُ السيارات جسورًا مقطعة بفعل القصف الإسرائيلي لها، ينزل منها عاكف ويستقلُّ سيارة أخرى، وهكذا حتى وصل إلى آخر نقطة ممكن أن تصل إليها سيارة. وهناك واجه مشكلة كبيرة، وهي خلو الطرقات من أي وسيلة نقل، فما كان منه إلا أن وصل إلى وجهته سيرًا على الأقدام من تلك المنطقة البعيدة إلى عيناثا.
عروج العاشقين والأبطال
هناك، عند “مثلث التحرير” استشهد السيد عاكف مع مجموعة من رفاقه في الثلاثين من تموز فما الذي حصل هناك؟!
كانوا أربعة، اتفقت كلمتهم على تلقين العدو ضربات قاسية، قاسمة، وهذا ما فعلوه، فقد أبلوا خير البلاء في موقعة أجبرت العدو على التراجع، وترك جثث قتلاه، وجرحاه في أرض المعركة يطلبون المساعدة يومين كاملين. موقعة أجبرت هذا العدو الجبان أن يخلّف وراءه عتاد أربعة وعشرين جندياً في سهل “عيناثا”، من بينها بنادق (M15)، وسلاح (A2 الخاص بقائد الكتيبة التي قُتل في المواجهة،)، ثلاثين جندياً تحت الحصار داخل أحد المنازل المجاورة، من دون أن يجرأ على الاقتراب من جثامين الشهداء الذين سقطوا هناك. وقد اعترف العدو يومها بقتل تسعة عشر جندياً وجَرْح سبعة وثلاثين آخرين.
قبل أن تتلقّى العائلة خبر استشهاد عاكف، نهض الوالد من فراشه ليلاً ليصلّي صلاة الليل كعادته، وعندما نظر إلى ساعته وجدها قد تعطّلت، فعلم أن ابنه استشهد في تلك اللحظة.
وبعد انتهاء الحرب، نُقل جثمان الشهيد من أرض المعركة التي بقي فوق ثراها ما يُقارب الثمانية عشر يوماً إلى مستشفى “صور”، ومنها إلى بلدته “النبي شيث” ليوارى الثرى في روضة الشهداء في يوم 18 من شهر آب عام 2006م، وقد وفى بما عاهد عليه الله، فطوبى له جوار الأنبياء والصدّيقين عليهم السلام.