الوفاق/ قليلة هي الأفلام الروائية التي تستقطب المتابعة في هذا الزمن مهما كانت الحكاية من الواقع… وواقعنا كله روايات موجعة ومدهشة، وقد لا تصدق لكمية الحقائق فيها، لذلك يذهب غالبية المخرجين إلى فبركات قد تضر أكثر مما تنفع، ويهتمون بالتقنية الخاصة بالصورة والتقنيات الحديثة على حساب الفكرة والحدث، وهنا تتوه الواقعية إلى مجرد حكاية قد تؤثر وقد تمر مرور الكرام ما دام الهدف تقنيات التطور في الصورة وما يتطلبه السوق التجاري لعروض غرائزية، بينما في إيران الفكرة التنفيذ الرؤية مختلفة كلياً في العالم السابع عن ما هو سائد عنا وفي كثير من دول الغرب، ودليلنا فيلم “غريب” للمخرج محمد حسين لطيفي!
يعتمدون في إيران تجسيد الحالة والواقع بحدية نقل واقعية المشهد بما يجعل الصورة شريكة في التمثيل وحالة تعبيرية، يضاف إليها العاطفة ومغازلة الروح والسعي إلى تقنية الممثل حتى التفوق مع الحالة المراد إيصالها دون عقد أو ثرثرات لا تخدمها.
المخرج الإيراني محمد حسين لطيفي
المخرج الإيراني محمد حسين لطيفي حاصد الجوائز دائماً، وفي هذا الفيلم حيث صبر ونال وقطف منا الدهشة والاحترام لكثير من الأسباب، أهمها أنه يؤمن بأن الفيلم مكونات ومصادر ولعبة الدراما، ويؤمن بأن الفيلم مختبر في عمل مشترك بعد رؤية المخرج ومن ثم كيفية تنفيذ هذه الرؤية، وهذا للأسف نفتقده كثيرا في هذه الأيام التي تشهد متغيرات سياسية واقتصادية ودولية!
المخرج الايراني لطيفي في “غريب” يؤمن بأن الفيلم تشكيل، وتمثيل، وإيقاع تعبيري لا ينفصل عن الحكاية، وبأن كل هذا يوضع في صناعة إبداعية لا عملية تجارية سريعة مؤقته، بل حاول أن يعتمد على أرقى وأدق التفاصيل في زمن القصة مع ما هو معاصر في تقنية التنفيذ!
فيلم “غريب” يتصفح بما يريده السوق والشباب المتابع، ولكن يحترم عقلية المشاهد خارج غريزته وشهواته وجموح عواطفه كما يشتهي، أي أن الفيلم عند المخرج لطيفي بضاعة ينتجها مصنع سينمائي في رأس المخرج ومع مجاميع ترغب بالعمل معه!
وأجمل ما جاء في الفيلم أنه أخذ من الواقع ولم يأخذ كل الواقع، واستغل الطبيعة بما هي كأستديو خارج المبالغات، واستغل الطاقة البشرية والفنية والتقنية بذكاء ودراية، والأهم الإضافات الدرامية في تصوير الحبكة دون أن يربك أو يعيق الحكاية الأصل، واكتشافها يتطلب معرفة نقدية وإخراجية وأيضاً اهتمامه بكل التفاصيل من مكياج مدروس لا فضفاف، وسينوغرافية واعية!
“غريب” فيلم من ضمن عشرات الأعمال التي نفذها المخرج لطيفي، ولكن على ما يبدو هو الأحب إليه كما شعرنا من كلامه في الإفتتاح بقاعة “رسالات” وبدعوة من الجمعية اللبنانية للفنون، وأضاف المخرج: فيلم “غريب” عن الشهيد بروجردي، وهو من أوائل قادة الحرس الثوري في غرب إيران، وكان لديه من شجاعة الإمام علي بن أبي طالب (ع)، والشهيد من الشهداء الكبار، وبعد ٤٠ سنة حصلنا على ملفات ومعلومات عنه فكان هذا الفيلم بإسم “غريب”، وذلك من أجل أن يجعل إيران أمة واحدة.
حقبة من حياة الشهيد القائد محمد البروجردي
يصور الفيلم حقبة من حياة الشهيد القائد محمد البروجردي، والذي أرسل في مهمة إلى إحدى المناطق الإيرانية بطلب من الإمام الخميني(قدس)، وذلك من أجل رفع الظلم عن أهل تلك المنطقة، ووقف أعمال المجموعات الإرهابية هناك، وقد أذهل هذا القائد الجميع بأسلوبه القيادي الفريد.
الفيلم والتمثيل
ساعتان وسبع دقائق لا نشعر من خلالها بالملل، نتابع بشغف، وبانتظار المفاجآت، وتأخذنا كاميرا المخرج إلى زوايا جمالية رغم حدة المشهد وعنفه احياناً، وهنا تفوق المخرج في رسم السينوغرافيا بما حملت من كومبارس وديكورات واضاءة وممثلين ومشاهد يضاف إليها التأثيرات الصوتية التي استخدمها بذكاء، أما تجسيد المعارك فيحسب لصناعة السينما وليس للسينما الإيرانية فقط!
يضاف إلى ذلك ما يصلنا من تقنية عالية في أداء الممثلين المبهر خاصة الشخصيات الرئيسية، وتحسب للمخرج براعته في إدارة الكومبارس والمجاميع حيث علمنا أنهم لأول مرة يقفون أمام الكاميرا.
لقد تمكن المخرج من أظهار نجومه بواقعية ترفع له القبعة، وأخذ أدق التفاصيل الايمائية والتعبيرية، وتفوق في دراسة الجسد ونقل حركته إلينا لتشعرنا أن الممثلين من لحم ودم وحقيقية الشخصية .
– ولا شك نقف مطولاً عند أداء الممثل القدير بابك حميديان الذي جسد دور الشهيد محمد بروجردي، الشخصية صعبة، فيها العاطفة والإيمان والصبر والإنسان الطيب والحسم والمقاوم والتنفيذ!
وبابك فنان من طراز رفيع، يهتم بأدق التفاصيل، رشيق، سريع التقاط الحالة، عميق الأداء، تعبيري في وجهه وملامحه وجسده النحيل، يعرف متى يغضب فتخرج من نظراته إشارات تعبر عن عمق فهمه لحقيقة دوره، وهذه تقانية عالية تكتسب من عمق الموهبة، ولا دخل للمخرج بها، والمخرج الشاطر هو الذي يكتشفها ويلاحقها كما فعل لطيفي هنا.
– القدير مهران احمدي، جسد شخصية شوان رئيس الاكراد، شخصية مركبة صعبة، وتتطلب مقدرة مسرحية كبيرة كي يعرف الممثل تجسيدها، وهنا مهران تفوق، وأظهر مقدرة متدفقة في رسمها، وكاد أن يكون بطل الفيلم، ورغم إجرام الشخصية، وحدتها، إلا أن تقنية الممثل جعلتنا نتابعها، ونبحث عنها، وهذا الدور المؤدى بجمالية الممثل الحاضر كان بمثابة جائزة الفيلم.
– برديس بور عابديني، لعبت دور الممرضة، ورغم ملاحظاتي النقدية حول تغييب أداء الممثلات، وحرمانهن من التعبير، وعدم إظهار مقدرتهن التمثيلية، وتغييب الأداء الإيمائي عنهن – حينما سألت المخرج عن هذه السقطة برر بأن كل المشاركات لا علاقة لهن بالتمثيل، وخوفاً من عدم المقدرة على التعبير تم ابعاد الكاميرا عن ملامحهن حتى لا يضعف المشهد – بصراحة لم اقتنع بكلامه، والدليل أن السيدة عابديني حصلت على جائزة عن دورها هذا!
لقد تميزت عابديني بتشخيص دور الممرضة، وكانت متفوقة جداً، تعرف سرقة الكاميرا بعفوية، وتمثل بنظراتها، وبحركة فمها!
– رحيم نوروزي في دور “هدايت لطفيان” رئيس مخابرات الحرس، أدى دوره بنجاح، تحبه الكاميرا من كل الزوايا، حساس، ويلعب بذكاء ولا يتصنع.
– فرهاد قائميان لعب دور “ايرج نصرت زاد” ضابط الجيش الذي أُعدم، قدير، متمكن من حضوره، لديه مقدرة على لعب الأدوار الشريرة بثقة، وكذلك الأب الحنون، ممثل مركب يلعب معه المخرج كما يشتهي!
– جعفر دهقان دور الضابط “فلاحي” الذي غادر الى طهران، كان مقنعاً بما أسند إليه، لديه موهبة متوهجة أكبر من ما أسند إليه في الفيلم، وكان بالإمكان توسيع دوره أكثر!
– هجير سام أحمدى في دور سيروان (والد الطفل) الذي قتلت امه، هذا الممثل متمكن، يلون في المشهد بذكاء، عطوف وقاس معاً، يليق به أدوار الشر، وعلى ما يبدو هو ممثل من طراز رفيع!
– يبقى الإشادة بأصحاب الأدوار المكملة لنجاح المشهد اللقطة العمل، ما وصلنا أكد على مسؤولية كل من شارك بالفيلم، وشعرنا كم من المحبة تغمر الفريق العامل!
وللمخرج محمد الذي اعتبر لبنان وطنه الثاني نهمس بأن تجاوبنا مع الفيلم، ورؤيتك العالمية تؤكد أنك في المكان الصح، وبأننا في لبنان نرحب بأن تكون بيننا ومنا، فقيمة هكذا مخرج منافس لا حدود لها، وهو مُلك كل قلم ومحور وكتاب ومحاضرة… لقد تعلمنا من خلال فيلمك “غريب” أن الصبر في التنفيذ وبعد الرؤية توصل إلى التميز في النجاح.
جهاد ايوب
ناقد سينمائي