عينا الشهيدة الفلسطينية شاخصتان تتوعدان بانتقام قريب

الغروب لا يأتي سرّاً.. رواية الصمود التي تلاحق الصهاينة

خاص الوفاق: تكوّموا جميعاً على الأرض غارقين في بركة دم حارّ من جداول أجسادهم، وغربت الشّمس تماماً هروباً من هذا المشهد المروّع.

2023-08-19

د. سناء الشعلان

يقول له صديقه معزّياً ومواسياً له: “لا تجزع يا صديقي، فعند كلّ إنسان أمر يخشاه. أتصدّق أنّ قائدنا في الجّيش يخاف من الدّم، ويفزع منه أشدّ الفزع على الرّغم من أنّه ترأس أكثر من عمليّة إبادة جماعيّة للفلسطينيين؟!”

يردّ عليه بخجلٍ من حالته: “لكنّني لا أخشى الدّم، بل أستمتع به جدّاً، وقمّة فخري أن أسفحه من رقاب الفلسطينيين المخرّبين الذين يعيثون فساداً في دولتنا، لكن يا للعار، أنا أخشى غروب الشّمس، أصاب بهلع عظيم عندما تغيب الشّمس، وتتركني وحيداً في ظلمة هذا الكون، فأتخيّل أنّ كلّ الفضاء حولي يعجّ بالأرواح الشّرّيرة التّي تطاردني بمصائدها النّاريّة، وتحاول أن تنهش جسدي بمعاولها المسنّنة، وتسعى لخطف أرواح أبنائي، لتجرّها إلى الجحيم، هذا أمر رهيب، أكره اللّيل، وأخشى لحظاته التّي أقضيها في صراع مع شياطين وهميّة لا يراها سواي، ولذلك تمعن في تعذيبي”.

– “حالة غريبة بحقّ. عليك زيارة طبيب نفسيّ لإستشارته في هذا الشّأن” يقول صديقه معلّقاً على حالته..

– “عرضتُ نفسي على أكثر من طبيب نفسيّ، لكن دون فائدة؛ فلا أحد منهم يستطيع أن يساعدني، ولا الشّمس تتشبّث بمكانها في السّماء، ولا الغروب يأتي سرّاً، فلا يوقظ الأرواح الشيطانيّة التّي تتفلّت من عوالمها تقصد أن تطاردني بعذابها المسوم” يجيب الجنديّ الصّهيونيّ بهلع ووجع.

– “لكن لماذا؟ ما سبب هذه الحالة المرضيّة النّادرة؟” يسأل صديقه من جديد.

– “لا أعرف، بحقّ أنا لا أعرف لها سبباً، لكنّني أتمنّى أن يأتي الغروب سرّاً” يهتف الجنديّ بنبرة رجاءٍ وتمنٍّ.

يصمت الصّديق، وتزوغ عيناه بعيداً نحو الأفق، ونحو ذلك اليوم الذي يحاول أن يبتلع ذكراه لحظة بعد لحظة، فيخفق في ذلك، ويأتي الغروب ليخزه بذكراه التّي تقضّ مضجعه، وتحوّله إلى ملعون سيزيفيّ لا يعرف عذابه نهاية أو عقابه توقّفاً، يومها كانت الشّمس تكاد تنزلق خلف الجدار العازل لتردي المكان في المزيد من الظّلمة والوحشة، وكان هو الحارس اللّيليّ المسؤول عن حراسة البوّابة في المساء بعد عناء يوم طويل من المراقبة، وتفتيش العابرين، والتّفنّن في تعذيبهم وتعطيلهم وتوقيفهم وتأخيرهم وإذلالهم، فهو متورط معهم في هذه اللّعبة الظّالمة بقدر تعذيبه لهم؛ إذ لا يمكن أن تكون مُعِّذِباً دون أن تكون مُعَّذَباَ!

جاءت تلك المرأة الفلسطينيّة لتعبر البوّابة دخولاً إلى منطقة سُكناها في المدينة المعزولة التّي طوّقها الجدار من كلّ مكان كشريط سحريّ شرير خانق، كانت تجرّ ستّة أطفال، وتحمل في بطنها تلاً لحميّاً يمور بجنين قد أزف موعد خروجه إلى الحياة، كانت مرهقة وبادية التّعب، وجد لذّة خاصّة مستفزّة في مشاكستها، وتعطيلها وتلويعها وأبناءها الصّغار قبل أن يسمح لها ولهم بالعبور من البوّابة، وعندما ردّته بشموخ لا يتوقّع من قسماتها ، ومن شحوبها البادي، ومن لهاثها الموصول، قرّر أن يبالغ في تمتّعه بتعذيبها بأن يمنعها من العبور من البوّابة إلى أن يخيّم ظلام اللّيل، ليتشفّى ببؤسها وهي تفترش الأرض، وتتلحّف بالسّماء وبنوها على باب الجدار حتى الصّباح.

كان يتوقّع أن ترضخ لذلّه، أو أن تتضرّع له من أجل العبور، لكنّها لم تفعل ذلك، بل تفلت في وجهه غير آبهة بجبروته، وجمعت أبناءها على عجل، وأدارت ظهرها لتعود بهم من حيث أتت.

إشتعلت نيران الغضب في صدره الصّدئ، وأطلق حشداً من رصاصات نزقة باتّجاهها، فخرّق جسدها وأجساد بنيها في لحظات، تكوّموا جميعاً على الأرض غارقين في بركة دم حارّ من جداول أجسادهم، وغربت الشّمس تماماً هروباً من هذا المشهد المروّع، وبقيت عينا تلك المرأة تشخصان نحو السّماء، وترفضان أن تُغلقا، وتتوعدان بانتقام، هكذا فهم نظراتها، وصمّم على أنّها تحدّثه وتتوعدّه بالثّأر، وعندما عجز الجنود عن إغلاق عينيها انهال عليها بوابل جديد من الرّصاصات حتى بدا بطنها كمصفاة معدنيّة قديمة، لكنّها على الرّغم من ذلك ظلّت شاخصة العينين تتوعدّه بانتقام قريب.

من يومها بات غروب الشّمس يروّعه؛ إذ يكشف له عن عينيها الشّاخصتين، ويتوعّده بالعذاب، وزاد الطّين بلّة حمل زوجته بطفلهما الثّالث، هو يعرف أنّ الموت قريب، وأنّ الإنتقام قد أزف، لابدّ أنّ الإنتقام سيكون من جنس العمل، ولذلك لا بدّ أنّ الأرواح الشّرّيرة ستفتك ببنيه وبزوجته الحامل لتحرق قلبه كما أحرق قلب ذلك الأب الفلسطينيّ على زوجته وأولاده.

“لكن ما ذنب زوجتي وأطفالي الصّغار بما اقترفت يداي؟” يسأل الأرواح الشّرّيرة التّي تطارده، فترّد عليه بسؤال تنفخه في وجهه بلسان لهيب: “وما ذنب تلك المرأة الفلسطينيّة وأولادها الصّغار لتقتلهم دون رحمة؟”

– “لا، لا، لن يقتل أحد أيّاً كان زوجتي وأولاديّ الصّغار، دعوهم يعيشون، دعوهم يأكلون ويشربون ويكبرون، هم سيموتون في يوم ما، لكن ليس الآن؟” يرجو الجنديّ الأرواح متضرّعاً.

تجلجل الأرواح بضحكات خشنة، وتقول بحزم: “بل عليهم أن يموتوا الآن”.

– “لا، لن يكون ذلك أبداً، ابنتي الصّغيرة راحيل تخاف من الموت والقبور، أحبّها أكثر من كلّ البشر، هي أشدّ رقّة من نسمة صيف، لن يقتلها أيّ أحد، ويجب أن تعيش مديداً وأن تسعد كثيراً” يزمجر الجنديّ، ثم يغادر غرفته كالمجنون حاملاً مدفعه الرّشاش، ويهبط سلّم البيت سريعاً متوجّهاً إلى المطبخ حيث يجد زوجته الحامل وطفليه متحلّقين حول مائدة العشاء، يشيّع دهشتهم دون مبالاة، ويشرع يخرّقهم برصاصات مدفعه مبتدئ بابنته راحيل التّي تخاف الموت والقبور، ويحبّها أكثر من البشر أجمعين، وعينا المرأة الفلسطينيّة القتيلة الشّاخصة العينين تقدحان شرراً، وهو يصرخ بهستيريّة: “هؤلاء زوجتي وطفلي، أنا أحبّهم، لن يقتلهم أحد سواي، هيّا اغربي عن وجهي أيّتها المرأة الملعونة”.

 

المصدر: الوفاق/ خاص