أولاً- إن قضية حقل آرش كما يسمى لدى الجانب الإيراني وحقل الدرة كما يتم ذكره على لسان الجانبين الكويتي والسعودي، قضية مطروحة منذ ستينيات القرن الماضي، لكنه لم يكن هناك من يناقش إيران في ذلك الحين وفي ظلّ حكم الشاه البائد، بينما الخلافات بدأت بعد استقرار الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والأسباب واضحة دون شك.
ثانياً – إن وجود حقول ومصالح مشتركة لإيران مع دول الجوار لا ينحصر بالكويت والسعودية، فإيران لها حقول مشتركة مع كل من قطر وعمان والإمارات أيضا، كما ولها حقول مشتركة في اليابسة مع العراق و تركمانستان، وتوجد حقول مشتركة في بحر قزوين مع أذربيجان، ولا يوجد أي نزاع حول هذه الحقول، فإما تم التفاوض والتسوية بشأنها أو العمل على الاستثمار المتوازن أو التوصل إلى حلّ ما، ولكن هذا الأمر لم ينجز بشأن حقل آرش لحد الآن لأسباب واضحة علينا أن نمعن النظر فيها.
ثالثًا- ليست إيران هي الوحيدة التي لديها خلافات بشأن مصالح وحقول مشتركة أو قصايا حدودية سواء في البحار أو اليابسة، مع الدول الأخرى في الخليج الفارسي، وإنما هناك خلافات متعددة بين الدول العربية ذاتها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أن لدى الكويت والسعودية حقلان مشتركان هما حقلا الخفجي والوفرة ولا يتم التعامل في هذه القضايا بأسلوب النزاع ما يجعلنا نشكك في النوايا لاسيما أن جزءًا من هذه الخلافات الجارية اليوم هو نتيجة ما خلّفه الاستعمار في المنطقة، حيث ترك بعض الحدود أو المساحات المتنازع عليها، مثل منطقة الحياد الموجودة على الحدود المشتركة بين بعض دول المنطقة.
رابعًا- إن الموضوع تقني بامتياز، ولا يجوز تسييسه لا من قريب ولا من بعيد، أو طرحه في الإعلام بهذا الشكل المثير. فإن ترسيم الحدود والمياه الساحلية والبحر الاقليمي ومنطقة الجوار والمنطقة الاقتصادية الخالصة للدول المتشاطئة في الممرات المائية الضيقة كالخليج الفارسي، لا يتم إلا من خلال عملية معقدة، وكل ذلك يرتبط بموضوعين من أكثر المواضيع حساسية وأهمية، فالبت وفض الصراعات في هذه الأمور لايتم بسهولة حيث أن الكثير من العوامل ترتبط بهذا الموضوع من قبيل قعر البحر وتضاريس السواحل، ووجود الجزر في البحار، ووضعية هذه الجزر. وإذا أرادت الدول المتشاطئة أن تحدد هذه المناطق التي ذكرناها وفق قانون البحار ( أي تحديد خط الأساس ليضم داخله المياه الساحلية، ثم 12 ميل للبحر الإقليمي و12 ميل لمنطقة الجوار حتى تصل إلى 200 ميل بحري وهي حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة) ستتداخل هذه المناطق ما بين الدول، بالإضافة إلى وجود تفاصيل تقنية في موضوع الجزر والمواضيع الاخرى التي لها دور في تحديد الحدود البحرية ومن أين يبدأ ترسيم خط الأساس، فالموضوع تقنيّ بامتياز.
خامسًا- إن الموضوع قانوني، ولا ينبغي تسييسه، لأن التسييس يفسد القضية، لا سيما إذا وصل التسييس الى الاستفزاز عبر استخدام الإعلام لفرض واقعٍ ما أو العمل أو المبادرة من جهة واحدة دون الاتفاق مع الجهة الأخرى، وهذا ما يغير الحالة في المنطقة من حالة الاستقرار والأمن والتفاوض والحوار إلى حالة التناقض والتباعد والمواجهة.
ولاحظنا في الفترة الاخيرة، دخول العراق على الخط وطرح فكرة ترسيم الحدود البحرية، ليتبين وفق الرؤية العراقية أن جزءًا من هذا الحقل يقع في مياهه، أو في المنطقة الاقتصادية الخالصة التابعة له. وبغض النظر عن التفاصيل فقد تشابك هذا الأمر مع الخلافات الحدودية للعراق مع الكويت في موضوع أم القصر وغيرها، وأدى إلى تعقيد الأمور.
سادسًا- الموضوع المهم الآخر هو التوقيت، وذكرت سابقاً أن هذه القضايا لم تطرح في عهد الشاه البائد، لذا، السؤال هو: لماذا لم تكن تطرح سابقًا؟ ولماذا بدأت تطرح اليوم بعد التوجه نحو المصالحة بين الدولتين الكبيرتين في المنطقة أي الجمهورية الإسلامية الإيرانية والمملكة العربية السعودية؟
سابعًا- الأهم في هذا الملف هو طريقة التعاطي مع الموضوع، ولقد ذكرت سابقاً أن المبادرة من جهة واحدة لا يمكن أن تضع حلًا لهذه المشكلة، بل يؤدي إلى الاستفزاز والمحاولة لوضع الطرف الآخر في أمر واقع مايعقد الأمور. إن موقف إيران كان واضحاً منذ البداية، وهو الالتزام بالمفاوضات لترسيم الحدود أولًا ولحلّ القضية على أساس ذلك ثانيًا. والجدير بالذكر أن آخر جولة من المفاوضات استضافتها طهران في مارس ٢٠٢٢، والدور الآن لدولة الكويت أن تستضيف الجولة الجديدة لكن ذلك لم يتم لحد الآن، والمسؤولية تقع على عاتق الكويت. وكما قلت سابقاً إن طرح الموضوع وتسييسه في الإعلام بهذا الشكل سيؤدي الى أن يتحوّل الموضوع من شكله التقني والقانوني إلى خلافٍ سياسيّ، بل ويربطه مباشرة بسمعة هذه الدول وهيبتها وماء وجهها، والكل سيحاول أن يدافع عن سمعته ومصالحه وهيبته وهو ما سيفضي إلى زيادة التنازع والمواجهة، ولن يؤدي إلى الحلّ.
ثامنًا- إن الأساس هو الاعتراف بحقوق الآخرين، فهناك من يقول في الأوساط العربية أن إيران لها نسبة 5 بالمئة من هذا الحقل، وإيران تقول إن حصتها تصل إلى 40 بالمئة، فأيًا ماكانت هذه الحصة أو نسبة كل من الأطراف المعنية، من الضروري الاعتراف بوجود حصةٍ ما حتى تتم مناقشة حجمها وفق الأساليب التقنية، بينما نرى البعض ينكر وجود حصة لإيران في هذا الحقل، فإن لم تكن إيران تملك حصّة، علامَ يتم التفاوض؟ فلو افترضنا على سبيل المثال أن العراق اليوم ادعى السيادة على جزءٍ من الأحساء أو القطيف أو دولة الكويت أو أرضٍ إيرانية وأنها تابعة له، هل ستقوم المملكة العربية السعودية أو الكويت أو إيران بالتفاوض مع بغداد على هذه الأراضي؟ أو إن كل هذه الدول لن تقبل التفاوض أبداً لأن هذه الأراضي سعودية أوكويتية أو إيرانية، ولا يمكن التفاوض عليها.
إذاً عندما يتم التفاوض على الحقل فهذا يعني تلقائياً أنه مشترك بين الأطراف المتفاوضة، وهذا ما ورد في كثير من التقارير حتى في الأوساط العربية، وإن محاولات البعض مؤخرًا لإخفاء ذلك لن يغير من الحقيقة شيئًا. ولأن هناك حصّة لإيران في هذا الحقل، لذا ينبغي التفاوض بين الأطراف، ولا يمكن العمل من جهة واحدة من قبل أي طرف كما قام به كل من الكويت والسعودية في إبرام عقدٍ للاستثمار المشترك مع استثناء إيران، وهذا ما لن تقبل به الجمهورية الإسلامية على الرغم من الاتجاه نحو المصالحة وتحسين العلاقات، لأن المصالح الوطنية لايفرّط بها لأجل العلاقات السياسية.
تاسعًا- في الجانب القانوني، ينبغي القول أولًا إنه منذ الاستقلال وتأسيس الدولة الكويتية عام 1961 وحتى سنة 2000 م، لم تكن هناك أية مشكلة أو نزاع أو ترويج إعلامي أو ضغط سياسي حول القضية. وفي سنة 2000 تم الاتفاق الثنائي بين دولة الكويت والمملكة العربية السعودية على ترسيم الحدود، دون الأخذ بنظر الاعتبار الأطراف الأخرى، وهنا أقصد ايران و العراق الذي لم يكن له آنذاك إمكانية الاعتراض على أي شيء نظرًا لظروف مابعد اجتياح الكويت والحرب ضده والحصار المفروض عليه. لذلك ونظراً لأن الجانبين الكويتي والسعودي لم يعيرا أي اهتمام للجانب الإيراني في هذا الاتفاق، شرعت إيران بالتنقيب في هذه المنطقة، وهددت الكويت إثرها في 2001 بتقديم شكوى إلى المحافل الدولية بشأن القضية، لكنها قبلت بالتفاوض لاحقًا وزار أمير الكويت إيران، والجمهورية الإسلامية الإيرانية أوقفت العمل في الحقل الذي قامت بحفره بعدما شاهدت موقفًا يدلّ على حسن النوايا من قبل الكويت، وكان الهدف من ذلك إعطاء فرصة للتفاوض والوصول إلى حلّ.
واستمرت المفاوضات حيث انعقدت آخر جولة لها في مارس ٢٠٢٢ في طهران، على أن تستضيف دولة الكويت الجولة القادمة لكنها لم تبادر لذلك خلال العام ونصف العام الماضي. حتى أعلنت كل من الكويت والسعودية في مارس ٢٠٢٢ الاتفاق للاستثمار المشترك، دون الاهتمام بحقوق إيران في خضم عدم ترسيم الحدود البحرية بين الدول المتشاطئة ما أدى إلى احتجاج إيران على هذا الاتفاق لاعتباره غير مشروع بسبب عدم توازن المصالح بين الدول المعنية والإضرار بالغير ما يتعارض مع مبادئ القانون الدولي.
عاشرًا- إن الحل يكمن في التزام جميع الدول بالقانون بعد اعتمادهم دراسات وخرائط لترسيم الحدود، وهذا يتم عبر الطرق التقنية السلمية ولا المحاولات لفرض الأمر الواقع. وهنا لابد من اتفاق جميع الأطراف على إجراء عملية الترسيم بناء على القانون وتحديد الجرف القاري أولًا، فالأمور واضحة وفق قانون البحار واتفاقية جامايكا للعام 1982، ويبقى الاتفاق على التفاصيل المختلف عليها.
إن أي خلاف ينبغي التعامل معه وفقاً للمادة 33 من ميثاق الأمم المتحدة، والذي ينص على ضرورة فض النزاعات بالوسائل السلمية، أي عبر المفاوضات والتحقيق والوساطة والتحكيم ومن ثم التسوية القضائية، فالتفاوض على أساس الدراسات التقنية هو الأساس لأن الموضوع تقني، ولا يمكن أن يتم التحكيم أو التسوية القضائية دون وجود وقائع علمية وتقنية على الأرض، ودون تطبيق القوانين المرتبطة بموضوع ترسيم الحدود. وهناك مجموعة من القوانين تحكم عملية استخدام الوسائل السلمية لاسيما في موضوع التحكيم. أما في التسوية القضائية، فينبغي القول إن محكمة العدل الدولية لها مجموعة من الشروط لا مجال للتطرق إليها في هذه المراجعة السريعة. وفي الجانب القانوني عندما تترك كل الوسائل السلمية ويتجه طرف نحو التهديد بالمحاكم الدولية، أو المبادرة من جهة واحدة، أو المحاولة لفرض الأمر الواقع وعدم مراعاة مبدأ توازن المصالح ما يؤدي إلى الإضرار بالغير، فهذا يخالف ميثاق الأمم المتحدة، خصوصاً إذا وصل الأمر إلى المبادرة العملية في حفر الآبار والاستخراج والاستثمار والاتفاق بين دولتين دون أخذ الدولة الثالثة بعين الاعتبار، ما يعني الاستفزاز السياسي، ناهيك عن استخدام وتوظيف الإعلام من أجل تكريس هذه الحالة. فهذا الاسلوب لا يعد من ضمن الأساليب والوسائل السلمية، وقد يتسبب بتشديد النزاع والإخلال في الأمن الجماعي الإقليمي.
إذن، فعدم قبول مبدأ التفاوض والتهديد باللجوء إلى المحاكم الدولية ترفضه إيران التي التزمت بالتفاوض، وأجرت جولات من المفاوضات منذ عهد الرئيس خاتمي، وحين كان الدكتور كمال خرازي وزيرا للخارجية بينما هو اليوم رئيس المجلس الإستراتيجي للعلاقات الخارجية في إيران، وحتى مارس العام الماضي. وكما ذكرت سابقًا إن أية عملية تفاوضية لاتنجح إلا بالتزام جميع الأطراف بمبدأ توازن المصالح، حيث لا يمكن أن يكون التفاوض قائماً على مصالح طرفٍ دون الطرف الآخر، والمبدأ الثاني هو عدم الإضرار بالغير، إذ لا يمكن القيام باستخراج الغاز من حقل مشترك بين أكثر من طرف ثم نقول للطرف الآخر لا حصة لك في الحقل أو تعال لنتفاوض بينما هو يتضرّر من استخراج الغاز دون مشاركته، مايشكل حالة تجاوز لمصالح الآخرين ويؤدي إلى الإخلال بالأمن الإقليمي.
إن ايران ترفض الاتفاق الثنائي بين الكويت والسعودية، لأنه استثنى طرفًا آخر له مصالح في هذا الحقل، ولأنه وسيلة لفرض الأمر الواقع ما يؤدي إلى اللااستقرار في المنطقة، والحلّ في التفاوض والتحقيق وترسيم الحدود وفق القوانين الدولية، أو الوساطة ثم اللجوء إلى المحاكم الدولية في نهاية المطاف، وهو أمر يخضع للشروط والتشريعات ذات الصلة. وإن لم يتم ذلك، بل و يتم الاستثمار من جهة واحدة في الحقل المتنازع عليه، فهذا لن يؤدي إلى حلحلة الأمور عبر الوسائل السلمية والقانون الدولي، بل يرفع من مستوى النزاعات في المنطقة.