هذا الإضراب ليس الأول من نوعه في تاريخ البحرين، بيد أنه يكتسب أهمية الآن مع تواصله للأسبوع الثاني على التوالي، إذ وجد المئات أن معركة الأمعاء الخاوية قد تعيد لهم شيئًا من حقوقهم المهدورة.
يحتجّ المضربون على تردّي أوضاع السجن الإنسانية، حيث يضطرون لشرب الماء في قوارير المنظّفات، كما يضطرون لأكل وجبات الغذاء على أكياس القمامة البلاستيكية بدلًا عن الصحون، ويتناوبون على النوم لضيق المكان. يعاقبون بالاختفاء القسري، وهو العقوبة المفضّل تنفيذها لدى إدارة السجن، يحرمون من العبادة، تخترق خصوصياتهم، يحرمون من التشمس ولقاء عوائلهم بحرية، يحرمون من التّعلم، تكال بحقّهم الشتائم الطائفية. بإيجاز،اكثر من ١٣٠٠ معتقل رأي يتكدّسون في زنازين صغيرة إلى جانب سجناء جنائيين في بيئة غير صالحة للعيش الإنساني الكريم.
المنظّمات الحقوقيّة -الدّوليّة والمحليّة- طالبت مرارًا بالسماح للمقررين الأمميين المعنيين بزيارة السّجون لضمان احترام السّلطة لالتزاماتها الدّولية تجاه المعتقلين. إلا أن الرفض المتكرّر يؤكّد مخالفتها لتلك الالتزامات، بل وإصرارها على إساءة معاملة معتقلي الرّأي وتصفيتهم.
في أي حراك مطلبي، يعدّ إضراب الأمعاء الخاوية أسلوبا من أساليب المقاومة السلميّة ضدّ الاستبداد والظلم. إضراب لا يُعطّل مرافق الدولة ومصالح الناس بل تكون فيها المواجهة بين أفراد عزل لا يملكون إلاّ بطونهم وبين سلطة تملك كلّ مقوّمات القهر والبطش. مواجهة غير متكافئة، لكنّها -في انتفاضات الحقوق والحريّات- تصبح أشبه ما يكون بعملية فدائية يبذل فيها هؤلاء أنفسهم، ليعبِّدوا الطريق لشعبهم المستضعف، وليضيئوا له مشعل الحرية. وهي مقاومة تصبّ في صالح مسيرة الانعتاق من الديكاتوريّة.
رغم قيظ الصّيف اللاهب، مئات المعتقلين السياسيين في البحرين مضربون الآن عن الطّعام تعبيرًا عن رفضهم لما يتعرّضون له من انتهاكات تمامًا كما يضرب الفلسطينيون في سجون الكيان الصهيوني. في كلتا الحالتين، الجلاّد ظالم لكن المفارقة أن في حالة بعض السّجناء الفلسطينيين يضطر الكيان الصهيوني مرغمًا للرضوخ، فتنتصر الأجساد النّحيلة على الطغيان. أمّا معتقلي البحرين، فمقهرون ليس لضعفٍ في ارادتهم، بل بسبب استكبار سلطة بلغت من الاستهتار بحياتهم مقامًا فاق حتى الكيان العنصري المؤقت عتوًا واستكبارًا.
الأمعاء الخاوية تقرع الطبول في عقول متحجّرة
وثمّة سبب آخر مهم هو أن الكيان الصهيوني الغاصب -المعروف بغطرسته وجبروته وظلمه- يخشى من ضغط المنظّمات الحقوقيّة، وهو حريص على صورته في الغرب. بل إنّ واشنطن أحرص على تلك الصورة فيضطر مجبرًا للرضوخ. فيما النّظام البحريني لا يعنيه ذلك، لأنّه يعرف مسبقًا أنّه مَحمي الظَّهر. كما أنّ الإدارة الأمريكيّة وأنظمة الغرب لا يهمّها سمعة نظام المنامة لأنّه -بنظرهم- نظام وظيفي، مهمّته فقط حماية المصالح الغربيّة. بينما الكيان الصّهيوني هو منصة تحقيق المشروع الإمبريالي في غرب آسيا.
إذًا، ثمّة فرق. أنظمتنا تفوَّقت على نموذج الكيان الصهيوني. ويمكن القول إنّ التَّلميذ تفوّق على أستاذه بكثير. وبالتّالي، تعجز الأمعاء الخاوية أن تقرع الطبول في عقول متحجّرة فُتحقِّق أبسط الحقوق الإنسانيّة.
بما يتعلّق بهيئات الرقابة الرسميّة، كان تأسيس ما تُسمّى “الأمانة العامة للتظلمات” وسيلة لشرعنة الانتهاكات لا لاصلاح السّجون. رغم طابعها المستقل، إلا أنّها لا تخرج على الأطر الرسميّة. هي مؤسسة أمنية بامتياز وظيفتها الدفاع عن العقيدة السياسية الإقصائية، والتشهير بمعتقلي الرأي ومحاولة إظهارهم كمجرمين وكذّابين، حتى لو كلُّ هؤلاء من نخبة المجتمع البحريني وصالحِ علمائه، وبالتالي فهم يستحقون العقاب. مرارًا، نجدها تتبنّى رواية وزارة الداخليّة وخطابها الملفق.
إنّ ما تخبرنا به “الأمانة العامة للتظلمات” هو أنّ سجون البحرين جنّة من جنّات الله على الأرض، وهي الأرض الموعودة بتحقيق العدالة وتطبيق مواثيق حقوق الإنسان. لا تخبرنا “الامانة العامة للتظلمات” أنّ هؤلاء المعتقلين محتجزون ظلمًا، لا ذنب لهم سوى أنهم كانوا دعاة عدالة بوجه وحش كاسر يلتهم ثرواتهم، ويؤسّس دولة التجنيس السياسي والتّطبيع. كان الأجدى بالأمانة العامة أن تكون مؤسسة تضع حدًّ للظلم، لكنها في الواقع تُشرعن القتل البطيء والانتهاكات الطّائفية.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يستوعب النظام البحريني أنّ النّار والحديد ليسا كافيين وغير قادرين على إخضاع معتقلي الرّأي، وأنّه كلّما أمعن في البطش إزداد هؤلاء عزمًا، وأنْ لا خيار لديه سوى الاستجابة لمطالبهم؟