أربعينية الإمام الحسين(ع).. أكبر مشروع إصلاحي لواقع الأمة

تُعد الزيارة الأربعينية، عمليًّا، نبض حياة متجدد للفكر الثوري الجهادي الباحث عن الحرية من سلطة الظالمين وانعتاق الروح من قيود مفاهيم الخضوع والذل والانكسار

2023-08-28

تُعد زيارة الإمام الحسين(ع) في العشرين من صفر في كربلاء، أو الزيارة الأربعينية، أكبر مشروع إصلاحي لواقع الأمة بهدف بنائها على المستوى التوعوي والفكري والعملي، وتقويم وتحسين مسارها السياسي والفكري. إن زيارة الأربعين تجمّع إنساني وعالمي يتجاوز الطابع الديني، ويُشكّل حدثًا اجتماعيًّا غير مسبوقٍ في العالم لما تجمعه الزيارة من دلالات على المستوى التربوي والعقائدي والسياسي والإعلامي والثقافي. كما تختزن الزيارة أكبر عملية تفاعلية على عدة مستويات، فهناك الارتباط بين عالمي الغيب والشهود؛ وامتداد الماضي والحاضر والمستقبل؛ ومفاهيم بناء النفس الإنسانية؛ وديناميكيات الثورة الإصلاحية، وعناصر الهوية العاشورائية، وغيرها. فالزيارة، وإن تتسم بالطابع المذهبي الشيعي إلا أنها تعبّر عن تجذر القضية الحسينية في الوجدان الإيماني للمسلمين عمومًا والضمير الإنساني للعالم أجمع، فهي عمليًّا نبض حياة متجدد للفكر الثوري الجهادي الباحث عن الحرية من سلطة الظالمين وانعتاق الروح من قيود مفاهيم الخضوع والذل والانكسار.

كربلاء قبلة الزوار

منذ أن التقى الإمام زين العابدين عليه السلام في كربلاء بالصحابي جابر بن عبد الله الأنصاري أصبحت كربلاء قبلة للزوار في يوم العشرين من صفر، أربعين الإمام الحسين (ع)، يؤمّها الملايين من المسلمين من الكثير من البلدان العربية والإسلامية ـ إضافة إلى العراق…. وأصبح الزوار يتزايدون سنةً بعد أخرى.

وتشير الإحصائيات إلى أن عدد الزوار يوم الأربعين سنة 1968 بلغ أكثر من نصف مليون زائر، وارتفع عددهم في بداية السبعينات إلى حوالي مليون زائر، حتى بدأت سلطات نظام البعث الصدامي البائد بمحاولات عقيمة لمنع الزوار من أداء زيارة الأربعين، خوفًا من النقمة وتحسبًا من الثورة ضد الظلم والطغيان، وقد ذهب في سبيل ذلك آلاف المؤمنين بين شهيد ومسجون ومعذّب على أيدي أزلام نظام الدكتاتور صدام، ولكن بعد رياح التغيير التي هبت على العراق ونهاية الدكتاتورية الصدامية، أُفسح المجال للمسلمين لزيارة الإمام الحسين (ع) حتى وصلت أعداد الزائرين (في زيارة الأربعين، خلال السنوات التي أعقبت 2003 لأكثر من خمسة ملايين زائر، بينما بعض وسائل الإعلام قدّرت أعداد الزائرين بـ ثمانية ملايين زائر، جاء أغلبهم من مدن العراق المختلفة، وكذلك من الدول العربية والإسلامية، وخاصة من إيران والهند وباكستان والبحرين والكويت والسعودية.

وخلال إقامة الشعائر الحسينية في يوم الأربعين في كربلاء يصل عدد المواكب الحسينية إلى ألفي موكب أحيانًا، يتوزعون بين مقرّات المواكب والحسينيات والمساجد، بحيث تضطر الألوف من الزائرين إلى قضاء ليلة زيارة الأربعين في الصحنين الشريفين للحسين والعباس عليهما السلام، إضافة إلى الشوارع والأزقّة.

كما تضطر بعض المواكب الوافدة إلى كربلاء إلى أن تنصب خيامًا خارج المدينة أو في أطرافها وتنظم أمورها لتقديم المنام والمأكل والمشرب لأفرادها وضيوفها من الزائرين. وخلال إقامة مواكب العزاء في كربلاء يتبادل أفراد المواكب الزيارات فيما بينهم للتعارف وتقديم الخدمات لبعضهم البعض، والاستماع للخطب والقصائد التي تقام بهذه المناسبة، والتي تعبر عن اعتزازهم بتضحيات الإمام الحسين وأخيه العباس من أجل الإسلام وحبهم وتفانيهم في خدمة الزائرين.

دلالات زيارة الأربعين

تتنوع دلالات زيارة الأربعين بضخامة التراث الإنساني في الثورة الحسينية التي تحييها الزيارة الأربعينية من جهة، وبدرجة التفاعل مع القيم الإنسانية والمفاهيم الربانية فيها، من جهة أخرى. تبرز الدلالات في أبعاد الزيارة المعنوية الروحية والأخلاقية والثقافية والاقتصادية والإعلامية الاجتماعية والسياسية التي تستمدها من أبعاد القضية التي تتبناها روحيًّا وفكريًّا وثوريًّا. وفي الدلالات العامة لزيارة الأربعين التي يعكسها الشعب العراقي إلى جانب الزوار في إحياء المناسبة، فيمكن إيجازها بما يلي:

البعد الاقتصادي

تشكل القوَّة الاقتصادية وتأمين الوضع المالي رافعة أساسية في نجاح الأُمم والحركات بعد الموارد البشـرية، فضلًا عن معرفة كيفية إدارة المال وعدم الإسراف به والتبذير وحسن الاقتصاد بالصـرف. إنّ أموال الزيارة الأربعينية قوة مالية توظف في إحياء هذه المناسبة من خلال الصـرف المالي على المواكب وإطعام الطعام الذي تمارسه المواكب لملايين الزائرين. ويُعد هذا التوظيف من جوهر الممارسات العبادية، وهي لا تقتصر على تمويل ميزانية الأربعين، وإنما تصبح ثقافة الصرف والبذل في سبيل الدين، في الحضر كما في السفر، وبذلك تتجلى أسمى درجات التعاون والتكافل الاجتماعي بين مختلف أبناء المجتمع والأمة.

البعد الاجتماعي

تنعكس قدسية الزيارة الأربعينية في رمزيتها التي تجمع أصحاب الفكر التقدمي والإرادة الحرة من كافة الطوائف الاسلامية، ومن غير المسلمين في إحياء هذه الشعيرة. تُترجم الزيارة قوة ترابط المجتمع الواعي بحقوقه وطاقاته واجتماعه حول القضية الحسينية بما ينجح أداء المراسم والطقوس. وتظهر هذه القوة بين الزوار عبر الممارسة العملية لمختلف المفاهيم الثقافية والصفات الأخلاقية بما يعكس وجود نقطة تحول في مسار بناء الإنسان وفق النموذج الحسيني في التضحية والإيثار والشجاعة والغيرة والعلاقة مع الله (سبحانه وتعالى). وتكشف الزيارة حالة من التعافي الايجابي الكبير في السلوك الاجتماعي للزوار، خاصةً وأنها تمتحن الزائر بسلوكياته وأخلاقه ومواقفه وكلماته.
كما وتُعد الفئة الشبابية محور القوة الاجتماعية لمّا يختزن هؤلاء من طاقات وأفكار قيد الاستقطاب في صناعة المجتمع الحسيني المهدوي. من هنا، يصبح التعاون بين مختلف الفعاليات الثقافية والدينية والتربوية لتوجيه هذه الفئة وتهذيب مشاعرها ومظاهرها وصقل طاقاتها في طريق خدمة المشروع الحسيني وحفظ أهدافه، بالتوازي مع العمل على تحصينها أمام المشاريع التغريبية الاجتماعية والثقافية التي تعمل على استلاب الشباب من البيئة المؤمنة تحت عناوين التحديث ومجاراة العلوم العصرية، لا سيما عبر مواقع التواصل الاجتماعي. إنّ الزيارة الأربعينية هي بمثابة عملية صقل للروابط الاجتماعية والأسرية وللمشاعر الإنسانية فضلًا عن بلورة القيم الحضارية بين الشعوب المختلفة، بما يزيل الحواجز الاجتماعية والنفسية والثقافية بينها في الطبقية والعرقية والقومية والقطرية، ويُعزّز معه خلق نسيج اجتماعي تجمعه مبادئ الحق وثوابت الطريق.

التلاقح الفكري بين الزوار

يُعتبر التلاقح الفكري والتواصل المعرفي أحد أهم الركائز التي بنيت عليها الحضارات في شرق الأرض وغربها، وسبب أساس في التعايش السلمي.

وزيارة الأربعين توفر فرصة لالتقاء شتى الحضارات الشرقية منها والغربية، بما يكفل لكل زائر أو صاحب موكب أن يخرج بحصيلة معرفية ومبدئية متنوعة المصادر، ففيها تجد الشرقي والغربي ومن شتى الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية في حالة من التعايش، تكفل تحقيق هذه الثمرة إن تم رعايتها بالشكل المطلوب، كما أنها تمثل نقطة تلاق بين الشيعة أنفسهم ومن شتى بقاع العالم، وبين مبادئهم الإنسانية التي تم اختصارها بنقطة تدعى “طف كربلاء”.

تكريس ثقافة العمل التطوعي

زيارة الأربعين بما لها من خلفية دينية عاطفية فكرية تملك من المحركية والباعثية الاجتماعية، على العمل التطوعي قدرًا يفوق كل الإمكانات المؤسساتية العالمية في هذا المجال، فعلى مدى آلاف الكيلومترات ومن جميع الاتجاهات المؤدية إلى كربلاء ولعدة أيام تجد الشيبة والشباب؛ الرجال والنساء في حركة متواصلة يبذلون جهودًا جبّارة وأموالًا طائلة عن قناعة وإخلاص دون أدنى تذمّر أو إحباط، وبدون أي أجر مادي دنيوي  مقابل ما يبذلونه.

تكريس ثقافة التكافل الاجتماعي

إنّ التكافل الاجتماعي قيمة إنسانية، قبل أن يكون مبدأ دينيًّا، أرشد إليها الشرع المقدس، ولكن لم يكن مؤسسًا في تشريعها؛ كما يُعد هذا المبدأ من أهم المبادئ التي تضمن للإنسان حد الكفاف على أقل التقدير بما يمنحه حياة كريمة بعيدة عن الذل والامتهان، لذا نتصور أنها أهم مبدأ تفتقر له مجتمعاتنا اليوم.

وزيارة الأربعين عندما تجمع بين العمل التطوعي من جهة، والعطاء المادي والروحي اللامحدود، ودون مقابل من جهة أخرى، تبلغ بذلك ذروة التكافل التي لم تبلغها المؤسسات الدولية فضلًا عن غيرها؛ إذ من أهم السمات التي يكتسبها الإنسان في زيارة الأربعين هي سمة العطاء، الذي يورث بدوره خصالًا أخلاقية وإنسانية كثيرة من قبيل الكرم والجود والإيثار وتغييب البخل والأنانية والحب المفرط للذات.

ختاماً استطاعت زيارة الأربعين وعلى مدى وجودها من تحقيق مكاسب اجتماعية وأخلاقية وسياسية واقتصادية. وقد استطاعت أيضا استقطاب كل شرائح المجتمع من سنة وشيعة وأن توحد المسلمين وتغسل قلوبهم من أدران الطائفية والأحقاد الجاهلية.ان الأعمال التطوعية التي يقوم بها المؤمنون أيام الأربعينية إنما يعبرون بواسطتها عن دعمهم للخير والعدل والحق واستنكارهم وكرههم للباطل .

وتعتبر شعيرة الأربعين والشعائر الحسينية الأخرى شعارات حضارية إذا ما قورنت ببقية الشعائر الموجودة عند غير المسلمين، وقد أثبتت أنها أرقى الشعائر وأكثرها فاعلية وتاثيراً وثورية ويدل على ذلك ديمومتها واستمراريتها وتوقد جذوتها منذ استشهاد الإمام الحسين (ع) إلى يومنا هذا .

المصدر: الوفاق/ وكالات