لندن – دكتور أحمد الزين – باحث في الشأن السياسي
في ذكرى إختطاف وتغييب إمام الوطن والمقاومة السيد موسى الصدر في 31 أب / إعسطس عام 1978 على أيدي النظام الليبي المجرم ورئيسه معمر القذافي المقبور، أقف متحيراً حزيناً متسائلاً عن سبب إطالة إجلاء قضيته وحلّ لغزه وتفكيك إسراره، وهذه ما يدفعني أن أوجه تحية تقدير واحترام لشخصه الكريم، وأن أقف وقفة إجلالا وتبجيلا وخضوعا وذلولا تواضعا أمام هذه القامة الشامخة الفذة وهذا القائد العظيم الذي ورث علم وأخلاق أجداده النبي محمد (ص) وأهل بيته (ع)، وقاوم وجاهد وثار كجّده الحسين (ع) على الظلم والجور والحرمان والطغيان والاستبداد، وكان قدوة للثاثرين والمقاومين والعاملين والناشطين، ذاع صيته شرقا وغربا علوا وعزّا في سيرته وحياته، وانتشرت الأقاويل غلوا ووخزا في تغييبه وغيبته، وكثرت الاحاديث عتوا ولغزا في إستشهاده ومماته.. حتى مُنع وحُرم من إقامة مجالس العزاء وتقبل التعازي وقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة.. حتى قيل بانه ظلم مرتين: مرة في تغييبه ومرة في غيابه..
وهنا نسلط الضوء على بعض جوانب من شخصيته حيث كان انسانا عطوفا ورجلا استثنائيا أشبه ما فيه من السمات الملكوتية والصفات الربّانية، ذو عقل سائد وفكر رائد متقدم بدرجات على جيل عصره، درس الدين والعلم وتاريخ الامم واستفاد من العبر والتجارب واستنبط المواعظ والحكم، وقرأ الماضي وعاش الحاضر، فأستوعب الواقع، واستشرف المستقبل، وأطلق شعارات قيمة لا تزال شاهدة حيّة في الصمود والتصدي والمقاومة والتضحية.. والقى الخطب والمحاضرات والندوات في المسجد والكنيسة والمدرسة والمؤسسة والمركز والبيت.. لنشر بواعث الثقافة والعلم والفهم والوعي والادراك..
تميّز الإمام الصدر بانه جمع صفات كثيرة، حيث كان عالماً دينياً، وسياسياً رسالياً، وفيلسوفاً عبقرياً، ومفكراً داعياً، ومصلحاً اجتماعيا، استحق بجدارة ان يكون رجل الإصلاح والنهضة، ورجل الحوار والتعايش، ورجل المقاومة والعروبة، ورجل الصدق والشفافية، ورجل الإخلاص والتفاني.. وكان ناصر المحرومين والمستضعفين الذي ضحى بحياته لخدمتهم ومساعدتهم من اجل إنقاذهم من غياهب الجهل والامية والفقر والحرمان.. فكان بحق مرشدا وواعظا وقدوة وأسوة في القول والعمل والفعل، وانموذجا رائدا فريدا في حركته الدؤوبة، استحوذ على عقول محبيه ومريديه من الطبقة العاملة المحرومة وشغل قلوبهم وعواطفهم حبا ومحبة وشغفا، وتعلقوا به لانهم وجدوا فيه الامل والمخلص والمنقذ لمعاناتهم الطويلة بعد تغاضي الدولة عن تأمين الحماية لهم وتناست حقوقهم، وتجاهلت آلامهم وما لحق بهم من القهر والاعتداءات والاعتقالات من قبل العدو الصهيوني المحتل لارضهم لسنوات طويلة قبل تحريرها على ايدي المقاومة اللبنانية عام 2000، التي أسسها وزرع بذورها ورعاها، وكان الامام الصدر الاب الروحي لها.
بالاضافة الى كل ذلك، كان الامام الصدر يحمل فكرا ثوريا مقاوما تحرريا، وكا ن ناشطا فاعلا وسياسيا بارزا في دعم القضية الفلسطينية ضد المحتل “الإسرائيلي” الذي اعتبره العدو الوجوديّ للأمّة العربية والاسلامية والوطن، حيث دعا الى مقاومته ومواجهته وطرده بل الى زواله، واطلق شعاره الشهير: “إنّ إسرائيل شرّ مطلق”، و “أنّ المقاومة الفلسطينية خير مطلق”. كما دعم الثورة الإيرانية ضد نظام الشاه الظالم آنذاك. وقد نشر الامام الصدر، قبل يوم من تغييبه وخطفه في 31 أب 1978، مقالته الداعمة للثورة الإيرانية في صحيفة لوموند الفرنسية تحت عنوان “نداء الأنبياء”.
والاهم من كل ذلك، لقد تعامل الامام الصدر مع الدين على انه رسالة سماوية ايمانية جاءت لخدمة الانسان، وتعامل مع السياسة بعقلية اخلاقية انسانية، لا بعقلية تجار السياسة فاطلق شعار رفع الحرمان قائلاً: (نحن لا نعمل سياسة لأجل السياسة، نحن لنا هدف، هدفنا إزالة الحرمان). فاستخدم السياسة وسيلة لردم الهوة بين المواطن والدولة، وكان يعتقد بان الله تعالى يُعبد من خلال خدمة الانسان، وان الوَطَن كيان نهائي لجميع ابنائه، وأيقن قيمة الانسان كضرورة لقيام الدَّولة والحكم، وكل مشاريع السُّلطة والتنمية والانماء والخدمات والوظائف تسخّر لراحته ورفاهيته بعيداً عن العائلة والطَّائِفَة والمذهب والمنطقة. فهو لم يتعامل مع السياسة كغاية لكسب المواقع المتقدمة والمراكز الرفيعة والانتفاعات الشخصية والعائلية، ورغم كلّ الممتلكات والمؤسسات التي أسّسها، وكل الاموال التي جمعها، عاش فقيرًا ورحل فقيرا، ولم يورّث مالاً ولا سلطة لعائلته تأسيا بسيرة أجداده الانبياء والائمة الاطهار عليهم أفضل الصلوات والسلام.. وهو رغم أبداعاته واسهاماته وعطاءاته لم يسجِّل أي جمعية أو مؤسّسة او شركة أو أرض باسمه واسم عائلته بعكس واقع الحال بعد غيابه، عندما تحول موقعه وإرثه الى زعامة حكم وسلطة وشهرة ومناصب واموال وشركات وقصور.
لقد مضى السيد موسى الصدر شهيداً حيّاً في نعيم الجنان، وبقي حيّا فينا بإرثه وخطه ونهجه وتفانيه للإنسان، وحيٌّا ساكنا في وجداننا وضمائرنا وعقولنا وقلوبنا والكيان، وحيٌّا في علمه ومواعظه وخطبه الدينية لتوعيته على الإيمان (والقائل: للإيمان بعدين: بعد نحو السماء وبعد نحو الإنسان)، وحيٌّا ماثلا في مواقفه الانسانية لنصرة المحروم والمغلوب آن، ونبذ الظلم والحرمان لأي طائفة او مذهب كان، حيّا في كل بذرة زرعها لإحياء ثقافة المقاومة ضد المحتل الصهيوني لارضنا مما أثمر عزة وكرامة والنصر والعنفوان (والقائل: الوطن يحفظ بالجهاد والكرامات تحفظ بالشهادة)، حيٌّا مع نهضة المؤسسات التربوية والمهنية والجمعيات الشبابية والنسوية لتكون الدرع والامان، وكل مشاريع الانتاج والتنمية والانماء التي أنعشت المجتمع والإنسان، حيٌّا في ندواته ومحاضراته لتقريب المسافات بين المذاهب والطوائف والبلدان، حيّا في أفكاره النيرة التي بثت روح التعايش والوحدة والمحبة والتسامح والغفران، (والقائل: إنّ المسيحيين هم إخوان لنا في الوطن وفي الإيمان)، حيٌّا في تعاليمه لحبّ الوطن ووحدة أبنائه ولبناء الدولة القادرة العادلة كسائر الاوطان، (والقائل: لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه سيد حرّ)، حيٌّا في سيرته الوطنية الجامعة التي علمتنا معنى المواطنة والتضحية والشهادة للدفاع عن الوطن والانسان والارض والبنيان، (والقائل: السلاح زينة الرجال)، حيّاٌ بخططه واستراتيجيته وسعيه الدؤوب لوحدة العرب والعربان، حيّا في نظرته الإنسانية بان المسلمين والمسيحيين سيّان، رعايا واقوام جيران واخوان..(كما قال الإمام علي (ع): “الناس صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق”).. حيّا في حركته وإندفاعه الدائم للذود عن القدس الشريف وحماسه ودعمه للقضية الفلسطينية والبيان: بان عيشنا دون القدس موتٌ وذلّ وهوان.. ونهاية “إسرائيل” حتما الى زوال وذوبان.
فالسّلام عليك سيدي وإمامي يوم ولدت، ويوم عشت، ويوم أسست، ويوم استشهدت ويوم تبعث حيّا..