دراسة وفن

“مسرح الحرّيّة” ينهض من تحت أنقاض القصف الصهيوني

من أجل أن نتحرّر، نحتاج إلى الأسلحة، لكن بلا ثقافة، الأسلحة لا تقدّم ولا تؤخّر.

2023-08-30

“من أجل أن نتحرّر، نحتاج إلى الأسلحة، لكن بلا ثقافة، الأسلحة لا تقدّم ولا تؤخّر. الإخوة في النهاية سيقتلون الإخوة”، هكذا قال لي الأسير الفلسطينيّ زكريّا الزبيدي، في نيسان/أبريل 2015.

الزبيدي هو أحد المؤسّسين المشاركين في “مسرح الحرّيّة”، الذي تأسّس في مخيّم جنين للّاجئين في شمال الضفّة الغربيّة في فلسطين. عندما قابلته، كان قد سلّم نفسه طوعاً إلى مركز احتجاز تابع لـ “السلطة الفلسطينيّة”؛ استجابة لتهديد جيش الكيان الصهيوني بقتله.

الزبيدي أيقونة المقاومة الفلسطينيّة. بصفته قائداً عسكريّاً لـ “كتائب شهداء الأقصى”، كان من ضمن المقاومة المسلّحة ضدّ التوغّل الصهيوني في مخيّم جنين للاجئين، خلال الإنتفاضة الثانية في عام 2002، في 2021، كان زعيماً ربّما لأكثر جولات الهروب دراميّة واستثنائيّة من سجن إسرائيليّ ذي أمان عالٍ، هروب قُورِنَ بفيلم “شاوشنك ردمشن” الهوليوودي (1994). قُبِض عليه بعد ذلك بوقت قصير، وظلّ في السجن منذ ذلك الحين.

تذكّرت كلمات الزبيدي أثناء الإستماع إلى أحمد طوباسي؛ المدير الفنّيّ الحاليّ لـ “مسرح الحرّيّة” مؤخّراً في اجتماع تضامني عبر الإنترنت للمجموعة الفلسطينيّة، نظّمته “كتب الكلمة اليساريّة” و “جانا ناتيا مانش”، وهما مؤسّستان تربطني بهما علاقة وثيقة.

تصاعد العنف

كان مخيّم جنين للاجئين هدفاً محدّداً لقوّات الاحتلال الصهيوني لعقودٍ، الآن قد دمج سكّان المخيّم، المقاومة المسلّحة مع المقاومة الثقافيّة. “مسرح الحرّيّة” نموذج لهذه المقاومة الثقافيّة. لذا؛ لم يكن من المستغرب أن يكون “مسرح الحرّيّة” هدفاً خاصّاً، خلال غارة إسرائيليّة على جنين في أوائل تمّوز/يوليو الماضي.

لاحظ المراقبون أنّ هذه ربّما كانت الغارة الأشدّ والأكثر وحشيّة على المخيّم، منذ أوائل عام 2000. وهذا يقول الكثير، بالنظر إلى أنّ الغارات الإسرائيليّة تحدث بانتظام شبيه بمنظّم الإيقاع الموسيقيّ. قد يتذكّر البعض أنّ الصحافيّة شيرين أبو عاقلة؛ المواطنة الأمريكيّة، قتلها قنّاص إسرائيليّ في أثناء تقريرها من المخيّم، في حزيران (يونيو) من العام الماضي.

جاءت الغارة في عام شهد أعلى عدد من الهجمات الإسرائيليّة على البلدات والقرى الفلسطينيّة، في الأوقات الأخيرة. ووفقاً لأرقام “الأمم المتّحدة”؛ قُتِل 143 فلسطينيّاً على يد القوّات الإسرائيليّة، بين كانون الثاني/يناير وأيّار/مايو، وهذا العدد أكثر من ضعف العدد للفترة المماثلة من العام الماضي.

هذه الزيادة الحادّة في العنف الإسرائيليّ – سواء مباشرة عن طريق الشرطة الإسرائيليّة وقوّات الجيش، أو عن طريق المستوطنين الذين يدعمهم – شرّعها وحفّزها وزراء الحكومة الإسرائيليّة المتطرّفة، الأكثر يمينيّة على الإطلاق.

يعتقد الكثيرون أنّ ثمّة أدلّة قاطعة على أنّ إسرائيل دولة فصل عنصريّ؛ فقد أصدرت “منظّمة العفو الدوليّة”، على سبيل المثال، تقريراً في العام الماضي بعنوان “فصل إسرائيل العنصريّ ضدّ الفلسطينيّين”.

وأخيراً، في حزيران/يونيو من العام الماضي، زار بان كي مون؛ الأمين العامّ السابق لـ “الأمم المتّحدة”، وماري روبنسون؛ الرئيسة السابقة لأيرلندا والمفوّضة السامية لحقوق الإنسان في “الأمم المتّحدة” فلسطين؛ ممثّلين عن “الشيوخ”، وهي مجموعة أنشأها نيلسون مانديلا، وتوصّلوا إلى الاستنتاج القائل بأنّ ثمّة “أدلّة متزايدة على أنّ الوضع يتوافق مع التعريف القانونيّ الدوليّ للفصل العنصريّ”.

إعادة بناء… الذاكرة

في اجتماع التضامن في 27 تمّوز/يوليو، تحدّث أحمد طوباسي عن تأثير الغارة الأخيرة المروّع في الأطفال بخاصّة. لشرح معنى الغارات الإسرائيليّة للجمهور الهنديّ، تذكّر طوباسي ما قاله له أحد الأصدقاء بعد أن دُمِّر منزله واعتقلته القوّات الإسرائيليّة.

عندما سأل الضابط الإسرائيليّ صديقه عن شعوره بعد هدم منزله، قال: “لا يهمّني، سوف نعيد البناء”. “ستعيدون البناء بالطوب والملاط”، قال الضابط الإسرائيليّ. “ولكن كيف ستعيدون بناء الذكريات المرتبطة بذلك المنزل؟”.

هذا ما تحاول إسرائيل القيام به، قال طوباسي؛ تدمير ذاكرة الفلسطينيّين، وضربهم حتّى يقبلوا بأنّهم لا ينتمون إلى أرض أجدادهم. هذا هو السبب الحقيقيّ لأهمّيّة الثقافة – لضمان عدم محو الذاكرة، ولتغذية الموارد الداخليّة الّتي تحافظ على كرامة الإنسان ورغبته في الحرّيّة حيّة. كان تعرّف ذلك من قِبَل الممثّل والمخرج وصانع الأفلام الفلسطينيّ الإسرائيليّ جوليانو مير– خميس، الذي شارك في تأسيس “مسرح الحرّيّة” في عام 2006، إلى جانب الزبيدي، والممرّضة السويديّة الإسرائيليّة جوناتان ستانتشاك، والموسيقيّ السويديّ الإسرائيليّ درور فيليير. ووصف مير- خميس، الذي كانت أمّه إسرائيليّة ووالده عربيّاً، نفسه بأنّه “100% فلسطينيّ و100% يهوديّ”.

شهد مير- خميس قوّة المسرح عندما أسّست والدته، آرنا مير- خميس، “مسرح الحجارة” في مخيّم جنين للاجئين؛ للعمل مع الأطفال الذين يعانون من الصدمات. كان الزبيدي واحداً من الأطفال في “مسرح الحجارة”. دمّر الإسرائيليّون المسرح، وبعد ذلك عَمِلَ مير- خميس على فيلم وثائقيّ عن الزبيدي وأصدقائه بعنوان “أولاد آرنا”. كان مير- خميس فنّاناً متميّزاً وقائداً ملهماً، اغتاله مسلّح ملثّم خارج «مسرح الحرّيّة» في نيسان/أبريل 2011.

منذ اغتيال مير- خميس، وهو أحد مؤسّسي المسرح، واجه المسرح هجمات عديدة. مؤسّس ثانٍ، ورئيس مجلس المسرح، سُجِن في سجن إسرائيليّ، وظلّ هناك لأكثر من عام، وتعرّض عدد كبير من الأشخاص المرتبطين بـ “مسرح الحرّيّة” لهجمات جسديّة على مرّ السنين؛ وتعرّض عدد كبير منهم للاعتقال مرّات عدّة. في اجتماع التضامن، ذكر طوباسي انتكاسة أخرى: “مؤخّراً، قلّص “الاتّحاد الأوروبّيّ” تمويل “مسرح الحرّيّة” بنسبة 80%؛ لأنّ المسرح رفض الموافقة على إزالة الطابع السياسيّ من عمله”.

التضامن الهنديّ

لـ “مسرح الحرّيّة” علاقة خاصّة بالهند؛ في شتاء 2015 – 2016، قضى ستّة طلّاب ومعلّمين من مجموعة المسرح ثلاثة أشهر في الهند. عَمِلُوا مع جانا ناتيا مانش، وجابت المجموعتان في إنتاج مشترك 11 مدينة حول الهند. في ربيع 2016، جابت جانا ناتيا مانش فلسطين بإنتاجاتها.

للتضامن مع فلسطين أهمّيّة خاصّة بالنسبة إلينا في الهند. قسّم البريطانيّون فلسطين في عام 1948، كما فعلوا معنا في العام السابق على ذلك. دعم قادة النضال من أجل الحرّيّة الهنديّة حقّ الفلسطينيّين في أرضهم، وكان هذا الدعم عنصراً أساسيّاً في سياسة الهند الخارجيّة بعد الاستقلال.

اليوم، اختلفت الأمور. لم تقلّل الحكومات الهنديّة المتعاقبة فقط من التزام الهند بالقضيّة الفلسطينيّة على مدى ثلاثة عقود، بل أصبحت الهند اليوم واحدة من أكبر المشترين للأسلحة الإسرائيليّة في العالم. يدعم المال الضريبيّ الهنديّ بشكل مباشر الاحتلال الإسرائيليّ لفلسطين، ونظام الفصل العنصريّ “الأبرتهايد” فيها.

سياسيّاً أيضاً، يبدو أنّ المؤسّسة الهندوسيّة تتبع كتاب اللعب الصهيونيّ بحذافيره. استُخْدِمت الجرّافات سلاحاً ضدّ الهنود المسلمين في الشهور الأخيرة في ولايات هنديّة عدّة، تحت حكم حزب “بهاراتيا جاناتا”، واحد من الأمثلة على التماثل بين النظامين الهنديّ والإسرائيليّ. بالنسبة إلى الهنود التقدّميّين والعلمانيّين، التضامن مع فلسطين ليس مسألة مجرّدة؛ إنّها مسألة تخصّ مستقبلنا في الهند أيضاً.

 

 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وتناولها عالميّاً.

 

 

 

 

المصدر: الوفاق/ وكالات