إكرام الضيف والكرم واستقبال زوار أربعين الإمام الحسين(ع) من صفات الشعب العراقي المميّزة وتنمّ عن العشق المعنوي في هذا العالم المادّي المعاصر وهي في غاية الأهميّة والى الآن لم يُعرف بحقّ عمق فضيلة الشعب العراقي في خدمة زوار الامام الحسين(ع) .
إحتوت زيارة الإمام الحسين عليه السلام يوم الأربعين على العديد من الأمور التي اعتاد المؤمنون والزائرون القيام بها؛ إحياءً لأمر أهل البيت عليهم السلام. فخلال المسير بين طول الطريق ومشقته، وقبل أن تقر العيون بما تهوى، نرى مواكب العاشقين التي نذرت نفسها لخدمة الامام الحسين(ع) بإكرام زائريه وتقديم الممكن والمستحيل من خدمة الزائرين بشتّى أنواع الخدمات، من الاستضافة وبذل الطعام والشراب وتوفير المبيت ووسائل النقل… إلى غير ذلك من جوانب الإكرام والاحترام، التي شاهدها العالم كلّه، وأدهشت الشرق والغرب، في مشهد قلّ نظيره بين التجمّعات الكبرى في العالم…فيا لسعادتهم….
أربعينية العشق صدى للتهجد والعبادة
جاء موعد العشق .. صدى التهجد والعبادة ..الألفة التي تجمعنا مع زائرين من كل أقطار الأرض، قلوب تتوضأ بماء الطهر والعاطفة التي وهبها رب العزة والكرامة لكل من عشق الحسين عليه السلام، نعيش لحظات لا وصف لها إلا جنان تنزلت لنعيش معها أرقى شعور وأجمل الأوقات تبدأ المسيرة المليونية من رأس البيشة في البحر متوجهين نحو النحر في كربلاء .. الكل يتهيأ للخدمة.. إذ أن الزائر عندنا مقدس فالاستعداد يبدأ قبل اشهر، بدءاً بتهيئة المنازل لكي تكون ملائمة لراحة الزائرين وكذلك تهيئة الأِسرَة.. اغطيتها والوسائد. حريصين كل الحرص على نظافتها.. كذلك الحرص على كفاءة عمل اجهزة التبريد خدمةً لراحتهم.
الكل مسرور.. العائلة.. جدران الدار.. اشجار الحديقة.. حتى الأواني والقدور المخصصة للطبخ في أوقات الزيارة. عند انقطاع الكهرباء ننظر الى قسمات وجوه الضيوف وهم يتقلبون من شدة الحرارة والطقس اللاهب حيث تقف الجفون ماطرة من قلة الحيلة وفقدان الحلول لضيوف عند دخولهم منازلنا.
تتسابق تلك الدموع المعتكفة منذ عام تريد الخروج لجنان الخدم والخدمة فمرادها قد تحقق رغم كل المعوقات واخطار كانت زائدة على مؤنة الصبر والتحمل.
قدسية الزائر ووجوب الخدمة
في حَيِنا كل الموالين تستنفر طاقاتها لعرض افضل مالديها.. لعلَ الزائر يتفضل عليها بتناول وجبة غداء، مبيت، اخذ قيلولة أو يقضي حاجته نتسارع فرحين لغسل ملابسه نطل بين الحين والآخر لغرفة الضيوف لتأمين راحته وهو نائم خوفا من عطل المروحة او عدم كفاءة جهاز التبريد.. بوجوه مستبشرة ودموع تتناثر على وجوهنا عندما يغادرنا الزائر وهو مرتاح.. نتسابق في الخدمة بل يصل الى حد الشجار داخل المنزل على غسل ملابس الزائرين وتأمين احتياجاتهم.. يتفاخرون اهل الحي فيما بينهم على عدد الزائرين الذين قاموا بخدمتهم.. مقارنة بالعام الماضي.. بعض من جاراتنا يجمعون المال لسنة كاملة لغرض تأمين خدمة الزائر.. هكذا نحن برغم كل مانحمل من سلبيات.. لدينا عشق للحسين عليه السلام ولكل من يحب الحسين عليه السلام.
استوقفتني احدى المحطات العشقية من الزيارة الاربعينية لأحدى جاراتنا لم تكن ميسورة الحال.. بالكاد تحصل على لقمة العيش لتُعيل أختها وابنتها ووالدتها المريضة.. جاءتني ذات يوم تطلب ان تعينني في الاعمال المنزلية لقاء مبلغ مالي اعتقدت ان والدتها قد ساءت حالتها الصحية وطلبها كان مراعاة لذلك.. ولكني فوجئت انها طلبت ذلك لكي تكمل مستلزمات استقبال الزائرين هذا العام…كانت حزينة ومنكسرة كون المنزل هذه السنة لم يكن كما في السنين السابقة… هكذا اصبحت زيارة الاربعين واستقبال الزوار بالنسبة لنا هو أصل من اصول الدين.. فهو السادس بعد المعاد… اما جارتي الاخرى فهي على العادة كما تقول تحرم نفسها من بعض الامور لتجمع كل يوم على مدار السنة مبلغ زهيد مخصص للانفاق على الزوار.. فما ان يحل موعد الاربعينية تفتح الصندوق… لتنفق ما في داخله على اطعام الزائرين وهي مستبشرة.
طريق الجنة.. السير نحو كعبة الاحرار
من عادة الخدم ان يؤدوا الزيارة بالتناوب حرصا على عدم ترك المواكب والمنازل بدون خدمة.. ومن المشاهد التي جعلت قلمنا عاجز عن الكتابة.. هي تلك المواقف منها ماعرضته وسائل التواصل الاجتماعي.. ومنها ماشهدناه مثلا رجل طويل القامة ليس لديه ماينفق قد نذر نفسه للخدمة وذلك من خلال الوقوف وأن يجعل من جسده ظلا للزائرين عندما يتناولون الطعام.. وآخر ضرير (فاقد البصر) يسير في طريق الحسين من البصرة بصحبة ولده الصغير ذو الخمسة اعوام ويقول ولدي من شجعني على ذلك.. أمرأة طاعنة في السن محنية الظهر تكاد جبهة رأسها تمس الارض تسير بصحبة عصا.. الآخر على كرسي متحرك بعجلات تحركها يديه وقد علق لوحة خلف الكرسي كتب عليها الرجاء عدم الدفع… شخص آخر يسير بقدمين مشلولتين امامه كرسي متحرك يدفعه هو بنفسه ويسأله أحد الحرس الى أين أنت ذاهب يبكي ويقول الى حبيبي الحسين(ع).. سأله ثانية اليس ذلك ارهاق لك: قال له أموت أن لن أسير الى الحبيب.. مشاهد كثيرة نقف لها أجلالا.. خادم معوق يزحف على الارض يخدم بيديه يجمع الحطب لإيقاد النار تحت القدر لطبخ طعام الزائرين ..
ما أن تسير واذا بالاعلام ترفرف من كل دول العالم بأيدي الزائرين تُعلمنا بأننا زوار من «تركيا، لبنان، ايران، الهند، باكستان، البحرين، الكويت، نيجريا، استراليا، انكلترا والسويد ..».
للمصحف الشريف أثر بارز في الزيارة الاربعينية
في هذه السنة للمصحف اثر بارز في الاربعينية إذ تم رفعه بأيدي الزائرين وكذلك وضعه في الباب عند مقدمة المواكب..مما جعل الزيارة أكثر أجلالاً وهيبةً ..
كذلك فأن الزيارة المليونية أصبحت (عالمية) وشوكة في عيون الحاقدين.. رمزا للولاء والطاعة.. رسالة سلام وحب للعالم أجمع.. أنها فرض وهبه الله لخَدَمَة الامام الحسين(ع).. منه ورحمة عطاء مكلل بالأيثار ونكران الذات.. اصبحت زيارة الاربعين أيقونة لعشق متجدد.. عطاء ممزوج بحب ودعاء نابع من سريرة نقية قد يكون حاملها طفل صغير… شاب يافع… امرأة طاعنة في السن.. شيخ كبير مصدر قوته الله وعصاه التي يتكأ عليها.. نعم انها من العجائب في ايقاظ النفس وأنتشالها من براثن الضلال.
مشاعر الخادم والزائر في ايام انتهاء اربعينية العشق
أي مشاعر أستطيع ان اضعها على الورق.. صدقا فالكلمات تبخس حقها.. ألم وحسرة.. الوهن اخذ مأخذه من جميع الجوارح بالكاد يلملم أصحاب المواكب ادواتهم مع أصداء القصائد الحسينية استعدادا للرحيل على امل الرجوع في الاربعينية القادمة. الدموع تنهمر من العيون حزنا على فراق اناس لانعرف اسماءهم ولا حتى انتماءاتهم أو جنسياتهم كل مايجمعهم حب الحسين عليه السلام.. كعبة الاحرار. أن الحسين َوحَدَ العالم بأختلاف قومياتهم.. الكل يدعو الله ويمني الآخر بالعودة. أي عجيبة تلك، عمل دؤوب تحت حرارة الصيف اللاهب ونار القدور، متحزمين جميعا لخدمة الزائرين.. مع أنفاق مالي وأرهاق جسدي.. جُند مستعدين لخدمة الزائرين في كل وقت وحين.. هكذا هم الخدمة مجندين انفسهم للخدمة ويدعون العودة لها ولكل من يحب ذلك بل يرجون ويتوسلون الى الله بأن لايحرمهم هذا العطاء الالهي.
الموازنة في اربعينية العشق بين اللذة الروحية.. والحزن
لا يخفى على من داوم الزيارة الاربعينية من انتعاش الروح او بالأحرى استمداد الغذاء الروحي من تلك الشعيرة.. والتي هي منهل الاستمرار في العطاء رغم التعب الجسدي وآلامه. فهذا التعب لاشيء أمام التقاء الأرواح وانتعاشها مما يشعر الإنسان بطاقة عجيبة بالعطاء الذي تكلله المحبة.. خدمة الآخر تصبح ديدن العاشق… ولكي يحظى هذا العمل بالقبول.. يجب أن لاتطغي هذه السعادة الروحية على استشعار الحزن والألم والحسرة على ماجرى لاهل البيت.. في تلك المصيبة… ان طريق العشق إنما رحمنا الله به ليعطينا طاقة للاستمرار لغرض تجسيد الآم رجوع السبايا… فلنحذر هذا الفخ فأن لم يتحقق التوازن.. سنكون فريسة للشيطان اللعين لابعادنا عن الهدف الذي لأجله توجهنا لأحياء اربعينية العشق.
اللذة الروحية واستشعار المصيبة تساوي طاعة الله
بالتأكيد ان تغلب استشعار المصيبة على الجانب الروحي فلا بأس.. ولكن ان تتغلب اللذة الروحية… فلن يتحقق الهدف الذي من أجله اقمنا تلك الشعائر وهنا العاقبة لن تكون مرضية…
نسأل الله أن يعيننا على تحقيق غاياته… لنيل رضاه فهو خير معين…. والحمد لله رب العالمين.