تبرز أهمية دراسة الرؤى الفكرية للسيد “موسى الصدر” لقضايا المرأة ومشكلاتها، بأنه كان أول من وضع خطة عملية ميدانية لمعالجة قضايا المرأة ومعاناتها في لبنان والعالم العربي والإسلامي، مستلهماً من القرآن الكريم المرتبة التي تجعل من المرأة الشريك الوجودي الأصيل للرجل.
وباعتبار المرأة عنصراً أساسياً في عملية التغيير والتقويم الاجتماعي، إنطلاقاً من النظرة الأممية إلى المرأة مروراً بدراسة واقع المرأة في المنظومة الإسلامية، والخلفيات التي تقف خلف الرؤية الدونية للمرأة في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، ودراسة الأسباب الفكرية والثقافية التي ساهمت في تعطيل دور المرأة، وعوامل نهوضها، وعرض عدد من المعوقات التي تواجهها.
لذلك كانت هذه المقالة في الذكرى الخامسة والأربعين لتغييبه من أجل الكشف عن الرؤية الإسلامية للسيد الصدر لواقع المرأة وأهمية تغيير هذا الواقع نحو الأفضل وفقاً لتعاليم الإسلام.
عاش السيد الصدر واقع المرأة المعاصرة بكافة تفاصيله، أدرك وأحصى السلبيات والظواهر التي أدت إلى انحطاط المجتمعات البشرية بسبب وضع المرأة المزري والتي لم تعاملها كإنسانة. ولم ينظر إليها على ضوء مقتضيات الوجدان الأخلاقي والتعاليم الإلهية وفق الرؤية الإسلامية التي لم تُميز بدورها بين الرجل والمرأة على مستوى الإنسانية، بل اعتبرت المرأة نفس الرجل لا أنها طينة مختلفة عن طينة الرجل، أو أنها خُلقت من مادة أدنى من مادة الرجل أو من أحد أعضائه وغير ذلك من المقولات التي تحتقر المرأة وتنزل بها أشد وأفضح الظلامات.
والإسلام الذي أقر بمبدأ المساواة في الإنسانية والحقوق ولم يفضل الرجل على المرأة في الخلقة، لم يقر تشابه وتماثل الحقوق بينهما، لأن في ذلك ظلماً على المرأة في الخلقة.
انطلق السيد الصدر في فكره من الآية القرآنية الكريمة:” إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً “، فالإنسان هو خليفة الله على الأرض، ويتابع الله “سبحانه وتعالى” في آياته المحكمات :” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى” –– “يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ، واحِدَةٍ”، “وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، “إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ”، نجد في هذه الآيات إن الله (سبحانه وتعالى) لم يميز بين المرأة والرجل في الخطاب المتعلق بالخلق والإيمان والصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان التمييز بينهما فقط في الواجبات الدينية وبعض الحقوق. من هذه المساواة في الخلق والتكريم انطلق السيد الصدر ونظرته الى المرأة كإنسان وطالبها أن تخرج من أنوثتها إلى إنسانيتها لتؤدي دورها في المجتمع.
بدأ السيد بدراسة تاريخية للمرأة منذ الحضارات الرومانية واليونانية والفارسية مروراً بالصينية والهندية وجاهلية العرب ليجد أن الأديان جميعها هي التي كرمت المرأة وأعطتها حريتها وليس هذه الحضارات المزعومة قائلاً: ” لو حاولنا تحرير المرأة تحريراً حقيقياً فإننا نجد في التعاليم الدينية ما يؤمن لها ذلك. معتبراً أن الدين لا يمنع إطلاقاً من ممارسة المرأة لمختلف النشاطات الاجتماعية وأن الحجاب الشرعي لا يمنع المرأة من ممارسة أي نشاط في العالم.
اقتران القول بالفعل
وهنا لا بد من القول أن السيد الصدر لم يكن منظراً دون تطبيق كان يقول ما يمارسه ويمارس ما يقوله، فتروي السيدة رباب الصدر شقيقة الإمام الصغرى أنها كانت ترغب في تعلم التطريز خارج المنزل، لكن والدتها وشقيقها الأكبر السيد رضا وهو علامة وفيلسوف وله عشرات المؤلفات رفضا ذلك بحجة أن بنات المراجع وعلماء الدين لا يخرجن من المنزل خاصةً أنهم يسكنون في حي لرجال الدين فقط. أخبرت السيدة رباب شقيقها السيد الصدر برغبتها فأقنع السيد والدته وشقيقه بخروجها للتعلم موجهاً لها رسالة: عليك أن تكوني نموذجاً .. إن كنت كذلك، تكونين قد فتحت الباب أمام جميع بنات العلماء للخروج للتعلم، وإن لم تكوني كذلك قضيتي على كل أمل لهن بذلك…
حرية المرأة بين الإسلام والغرب
كان السيد الصدر يؤمن بإنسانية المرأة ويرفض استغلالها كسلعة أو لوحة فنية. ويقول في هذا الاطار إن إبراز مفاتن المرأة احتقار لها وتنكر لكفاءاتها وتقليل لعمرها ولوقتها وفرصها الغالية.
وكان يؤمن بحرية المرأة لكنه كان ينتقد الحضارة الحديثة معتبراً أنها لم تؤمن الحرية الصحيحة لها، إذ أن رفع شعار المساواة مع الرجل في الغرب لم يؤد إلا إلى انتصارٍ ظاهري. لكن وضع المرأة زاد تعقيداً ومأساوية وتعاظمت مستويات الإجهاض والطلاق والتفكك الأسري ونحو ذلك من الظواهر الإجتماعية الخطيرة، ما جعل المرأة مكبلة بطوق جديد من الإجراءات والتدابير الظالمة ساقها إلى أوضاع اجتماعية وأخلاقية بعيدة كل البعد عن العدل والكرامة الإنسانية التي تطلبها في كل حين.
وعليه يذهب السيد الصدر إلى مقاربة مسألة التحرر عبر وجوب تخطي التخلف وتحمل المرأة لموجباتها الاجتماعية والعائلية والإنسانية، فالحرية مسؤولية ورغبة عاطفية ترتبط بالمنطق. والتحرر ليس فك ارتباط واستقلال عن القيم، ومعالجة الأزمات التي تعيشها المرأة لا تكون بالخلاص والتهرب من التعهدات والمسؤوليات، فالإشكالية ليست في الحرية المسؤولة التي لو تسنى للمرأة أن تعيشها لبلغت القمة في الأخلاق والمجد، بل في التحرر المتفلت من أي قيود.
خطابه أسس لعمل نسائي مقاوم
يروي السيد صدر الدين الصدر نجل السيد الصدر، أن سماحته كان يتوجه عند انتهاء محاضراته في جمعية البر والارشاد إلى المكان المخصص للنساء ويستمع إليهن ناصحاً متفهماً يرشدهن للحلول. وكان في المشاكل الخاصة يستدعي الزوج فيؤنبه على المعاملة الفظة التي يعامل بها الزوجة أو الابنة وهذا ما عكس واقعاً مغايراً للسائد مما ساهم في تطور مفهوم العلاقة بين الرجل والمرأة…
السيد الصدر كان يعتقد أن المرأة تشكل أكثر من نصف المجتمع وأن عليها تأدية الدور الرسالي خدمةً للأسرة والمجتمع. كان يقول نحن في مجتمعنا بحاجة ملحة إلى اكمال الرسالة، نحتاج إلى نساء يقوين العزائم ويقفن بقوة الى جانب الرجل.
يتحدث عن الدور الرسالي للمرأة في الأسرة والمجتمع، في التعلم والتعليم، في العمل والإنتاج، وكذلك في العمل المقاوم. فقد كان يقول:” بودّي أن أتمكن من تجنيد نساء أمتي على حمل السلاح لكي يحلن بالاشتراك مع الرجل دون تكرار المأساة على أرضنا وفي كل يوم أنا أحرض نساء بلادي على ذلك”
وقد تأثرت النساء بهذا الفكر فكنّ رساليات حركيات مجاهدات .. تدربن على السلاح وحملنه وقاومن العدو الصهيوني مقاومةً مباشرة في المواجهات أو بزرع العبوات أو بالمراقبة والتجهيز للعمليات الاستشهادية .. فكانت منهن عشرات الشهيدات والأسيرات في سجون العدو الصهيوني ومعتقلات العملاء ومجاهدات ما زلن على الخط والنهج يروين سير العز والبطولة.